في حضرة صاحبة الجلالة

عبيدلي العبيدلي

بحُضور أكثر من 2300 مشارك من 74 دولة، وأمام 925 متحدثا، وبين مواد أكثر من 1400 بحث وورقة عمل، أعلن نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للغة العربية، الذي بدأ أعماله يوم الخميس الموافق 7 مايو 2015، وتستمر جلساته حتى العاشر من الشهر ذاته، عن إطلاق مبادرة بناء "معجم المصطلحات العربية المستحدثة".

.. توزَّعت أوراق العمل على موضوعات كثيرة ومُتشعبة بدءا من معوقات تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، مرورا بتأثيرات العولمة على تطور اللغة العربية والتحديات التي تواجهها هذه اللغة في عصر موجات العولمة التي تسعى لإعادة هيكلة الفكر الكوني وفق منظومة واحدة تشكل اللغة أحد أعمدتها الرئيسية، انتهاء بمتطلبات وضع مقاييس معاصرة لتدريس اللغة العربية لضمان إنتاج جيل عربي قادر على فهم مفردات اللغة، ومُتمكن من استخدامها في التفكير والتعبير كتابة واتصالا في العلوم الأخرى، بما فيها العلوم البحتة.

وقد شكَّلت حوارات المؤتمر -التي توزعت على ما يقارب الـ925 جلسة وورشة عمل- مادة غنية خصبة، من الطبيعي أن تتكامل مع مواد المؤتمرات الثلاثة السابقة، وتلك اللاحقة كي تؤسس لبيئة صلبة للغة عربية معاصرة، قادرة على التفاعل الإيجابي مع متطلبات التطور التي يشهدها العالم، ليس في المجال الأكاديمي، فحسب، وإنما على الصعد المعرفية كافة، بما فيها الثقافية والإعلامية.

... ليس هناك مجال للمجادلة حول أن أهم القضايا التي تمخض عنها المؤتمر الرابع لـ"صاحبة الجلالة اللغة العربية"، كما جاء في شعار المؤتمر، هو: "إطلاق مبادرة لوضع معجم للمصطلحات العربية المستحدثة؛ وذلك دعماً للجهود القائمة على مواكبة اللغة العربية لكافة المجالات وتعزيز مكانتها كلغة حياة. ويهدف هذا المعجم إلى أن يكون مرجعاً عالمياً لاستعمال اللغة العربية في كافة النواحي الحياتية الناتجة عن التطورات العلمية والتقنية والأدبية...وغيرها، وسيكون المعجم كذلك مرجعاً معتمداً للبحوث والدراسات الحديثة التي تعد باللغة العربية". وكما أكدت تصريحات أعضاء اللجنة التي ستعمل على بناء هذا المعجم، فإنه "إضافة إلى كونه مرجعاً للمترجمين من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، سيعمل كذلك على إحداث تأثير بارز في زيادة الإنتاج المعرفي المستحدث أو المترجم باللغة العربية؛ مما يفتح آفاقاً معرفية واسعة للناطقين باللغة العربية".

والأمر الذي لا شك فيه، هو حاجة الحركة العلمية والثقافية العربية؛ سواء للباحثين العرب، أو لأولئك المعنيين باللغة العربية من الأجانب، إلى قاموس، أو بالأحرى معجم للمصطلحات العربية، سواء كان ذلك في هيئة قاموس لترجمة المصطلحات الأجنبية، أو مكنز للمفردات العربية ذاتها؛ فحتى يومنا هذا، لا تزال المعاجم التقليدية مثل "لسان العرب"، و"القاموس الصحاح"، هي الكتب المرجعية لمن يبحث عن أصول الكلمات العربية أو معانيها.

ورغم أهمية مثل تلك المعاجم، والمنهجية العلمية التي تلتزم بها، إلا أن طرق البحث فيها تعود إلى العصور التي بنيت فيها، ومن ثم فهي تخاطب ذهنية الباحث التي عايشها؛ وبالتالي فهي لم تعد قادرة على تلبية احتياجات العصر الحديث، سواء من حيث بنيتها العلمية، أو طرق البحث في مداخلها، أو مواكبتها للكلمات المستحدثة التي ولدتها الثورات العلمية، وعلى وجه التحديد ثورة المعلومات والاتصالات التي ما زلنا نعيشها.

ولعلَّ أبلغ تشخيص لما أصبحت تعانيه اللغة العربية الحديثة، ومن ثمَّ أدواتها ومن بينها القواميس والمعاجم، من قصور أمام متطلبات البحث العلمي المعاصرة ما جاء على لسان شاعرها حافظ إبراهيم، حين قال:

وسعت كتاب الله لفظا وغاية...

وما ضقت عن أي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة...

وتنسيق أسماء لمخترعات

لا بُدَّ أنْ يُشكل هذا المعجم، حين الانتهاء من طبعته الأولى نقلة نوعية في الارتقاء بمكانة اللغة العربية بين لغات العالم الحية الأخرى، ويمارس دورا إيجابيا في مساعدة أدوات البحث العربية المعاصرة في معالجة مواد هذه اللغة ومكوناتها. وهذا ما أكد عليه العديد من الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر الرابع من أمثال مستشار برنامج سفراء جوجل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الشيخاني فتى، الذي نوَّه بإن "قاموس المصطلحات الجديد، يمثل نقلة مهمة للغة العربية، لمواجهة التطور الكبير في المصطلحات اللغوية الجديدة، واحتوائها بمفردات جديدة تضاف إلى قواميسنا التي لم تتطور منذ قرون. وأكد أنَّ موقع جوجل تجد صعوبة كبيرة في الترجمة من وإلى اللغة العربية، خصوصاً وأنه لا توجد قواميس حديثة توثق المفردات الجديدة، موضحاً أنه يجب على المسؤولين عن هذا القاموس إتاحته وتوفيره على الإنترنت، حتى يُساعد على إيصال ودعم العربية.. لافتاً إلى أنَّ الثلاث سنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في ترتيب قوة اللغات؛ حيث تراجعتْ من المرتبة السابعة إلى التاسعة على الإنترنت، ويُمكن للقاموس أنْ يُعيد اللغة للواجهة مرة أخرى؛ حيث من المتوقع أن تكون بالمرتبة الرابعة في العام 2017".

وعليه، ورغم أهمية إطلاق مثل هذه المبادرة الجريئة والطموحة في آن، يبقى ما هو أكثر أهمية من مجرد الاتفاق على الإطلاق، وهو الضمانات التي يحتاجها مثل هذا العمل الموسوعي الضخم، مثل وضع مقاييس البناء، وضمان استمرارية التحديث، وتوفير البيئة العلمية السليمة التي تؤمن الشفافية المطلوبة لإنجاح مثل هذه الأدوات البحثية الدقيقة.

... كلمة لا بد؛ منها وهي حُسن اختيار صفة "صاحبة الجلالة" للغة العربية؛ فليس هناك أجمل من هذا النعت للغة أقل ما يمكن أن يقال عنها الشموخ والإباء اللذين تتمتع بهما، وكلاهما من مكونات الجلالة.

تعليق عبر الفيس بوك