الاستشراق (2)

ناصر محمد

ينطلق إدوارد سعيد في رصده للاستشراق من العدستين: الفرنسية والإنجليزية، فبنية التفكير الاستشراقي شكلته هاتان الإمبراطوريتان منذ نهاية القرن الثامن عشر، وذلك من خلال علمائهما مثل الإنجليزي "وليم جونز" مكتشف اللغة السنسكريتية والفرنسي "دو ساسي" مقعّد علم فقه اللغة والفرنسي "ارنست رينان" مكرّس فقه اللغة للتمييز العنصري اللغوي ضد السامية، وقد استفاد من هذه الدراسات الأدباء أمثال "غوته" و"شاتوبريان" و"نيرفال" و"فلوبير" إذ كرّسوا الاستشراق أدبياً، كما كان الساسة الأوروبيون مساهمين كبارا في هذا المجال أمثال "نابليون" و"فردينان لسبس" صاحب مشروع قناة السويس و"كرومر" و"بلفور" في تعزيز النظرة الاستشراقية من خلال الاستعمار واستخدام تلك النظرة في عقلنة الاستعمار.

ولم يكن "كارل ماركس" بمنأى عن التأثر بالاستشراق حتى لصالح الاستعمار حين يقول: لا بد من أنّ مشاعرنا الإنسانية تتأذى من مشاهدة تلك الآلاف من المنظمات الاجتماعية النشطة والوقورة وغير المضرة وهي تتعرض للانحلال والذوبان في الوحدات التي تتشكل منها، الأمر الذي يلقي بها في بحار الأحزان، ومشاهدة أعضائها الأفراد وهم يفقدون في الوقت نفسه الشكل القديم لحضارتهم ووسائل رزقهم المتوارثة، ولكننا مهما يبلغ تأذينا من ذلك، يجب ألا ننسى أن تلك المجتمعات القروية الشاعرية، ولو كانت في ظاهرها غير مضرّة، كانت على مرّ الزمان تمثل الأساس المتين للاستبداد الشرقي، وأنها حبست الذهن البشري في أضيق نطاق ممكن، فجعلته أداة طيّعة للخرافات، واستعبدته وغللته بالقواعد التقليدية، وحرمته من جلال ومن الطاقات التاريخية جمعاء.

ويتناول إدوار سعيد ظاهرة "الردة" التي تنتاب العقل الأوروبي الذي يحاول أن يكون على الحياد في رؤية الشرق. يقول إدوارد: ولكن الذهن المفرد لا يلبث أن يتخلى عن هذا الموقف حين يواجه الرقيب الأشد جبروتا والمتمثل في المفردات نفسها التي يجد نفسه مرغما على استعمالها. وكان عمل هذا الرقيب هو إيقاف التعاطف ثم طرده من الذهن، وقد صاحب ذلك تعريف رنّان موقر يقول أن هؤلاء الناس لا يعانون، فهم شرقيون، ومن ثم لابد أن يعاملوا بطرائق غير الطرائق التي استعملتها لتوك. وهكذا فإن دفقة العاطفة تختفي حين تصطدم بالتعريفات التي لا تتزعزع والتي بناها العلم الاستشراقي الذي تدعمه الآداب الخاصة بالاستشراق مثل الديوان الذي كتبه جوته.

وفي رحلات الحج إلى الشرق، يفرق إدوارد بين الحجاج الفرنسيين والانجليز في إدراك الشرق، إذ كان الحجاج الإنجليز أمثال "جونز" و"ادوارد لين" و"جورج إليوت" يحجون إلى الأقاليم المستعمرة من قبل انجلترا وبذهنية استعمارية تطمح للامتلاك المادي، عكس الفرنسيين الذين يذهبون إلى بقع خسروها مع بريطانيا فينظرون إلى الشرق ويتخيلونه بالصورة الموجودة في أذهانهم في المقام الأول مثل الكتاب المقدس والحملات الصليبية مثل "فلوبير" و"شاتوبريان" و"لامارتين"، يقول إدوارد: كان الكتّاب الإنجليز يتفوّقون بصفة عامة على الكتاب الفرنسيين في وضوح إدراكهم لما قد يترتب على رحلات الحج إلى الشرق وصلابة هذا الإدراك. ويضيف: أن الكاتب الانجليزي يضطر إلى مواجهة مجموعة من الحقائق التي تقاوم خياله الفردي مقاومة شديدة.

وينوّه إدوارد على أن الأفكار المسبقة تكون عقبة كؤودا في النظر إلى الشرق مثلما هو، وتجعل من الذات هي المركز في التقييم مثلما كان "فرانسوا دو شاتوبريان" يعترف في كتابه "من باريس إلى القدس" حين يقول: إنني أتكلم إلى الأبد عن نفسي. حتى أن نظيره الفرنسي "ستندال" يعزو فشله إلى أنانيته القبيحة. ولا يخفي "شاتوبريان" نزعته الاستحواذية للشرق فهو يقول: لم تكن قضيّة الحملات الصليبية تنحصر في تخليص الضّريح المقدس، ولكنها تتعلق إلى درجة أكبر بمعرفة من يكتب له الفوز على الأرض: عقيدة كانت تعادي الحضارة وتحبذ الجهل بانتظام (يقصد الاسلام طبعا) وتناصر الاستبداد والرق، أم عقيدة كانت من وراء الصحوة الجديدة عند المحدثين لعبقرية العصور الخوالي وإلغاء العبودية الحقيرة. أما الشاعر الفرنسي "لامارتين" فقد وصف في رحلته إلى الشرق عام 1833م بأن العرب بدائيون والمسلمون منهم خاصة كسالى، ويعلق لامارتين على العرب قائلا: هذه الأرض العربية أرض العجائب، فكل شيء ينبت فيها، وكل ساذج أو متعصب يمكنه أن يصبح نبيّا هناك بدوره.

في الفصل الثالث من كتاب الاستشراق المعنون بـ "الاستشراق الآن"، يعرض فيه إدوارد تأثير العلوم على الاستشراق التي تؤكد البنية الاسشتراقية علميا في نهاية القرن التاسع عشر والتي كرّست التفاوت البيولوجي العنصري مثل كتاب فوكييه "مملكة الحيوان" و كتاب جوبينو "مقال عن تفاوت الأجناس البشرية وتقسيم الأجناس إلى آرية وإفريقية"، وكتاب "القوانين السيكولوجية لتطور الشعوب" لغوستاف لوبون.

ويستدعي إدوارد صاحب كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" المعروف بلورنس العرب في تأكيد بقاء تلك النزعة الاستشراقية على الرغم من احتكاكه العميق للعرب، يقول لورنس: من الممكن أن يتأرجح العرب إذا تعلقوا بفكرة ما كالمتأرجح من حبل يتدلى، فلقد أصبحوا خدما مطيعين بفضل ولاء عقولهم غير المعلن ولا يستطيع أحدهم أن يتحرر من ذلك القيد حتى يأتي النجاح ويجئ معه بالمسؤولية والالتزام وبعدها تختفي الفكرة وينتهي العمل بالخراب.

وبالنسبة للاستشراق الأنجلو الفرنسي في القرن العشرين، يستعرض إدوارد شخصيتين بارزتين في هذا المضمار وهما الإنجليزي "جيب" والفرنسي "ماسينون"، وعلى الرغم من كونهما يفوقان حيادا عن نظرائهما من المستشرقين إلا أنهم حتى بتعاطفهم يلصقون بالشرقي الصفات التي تتكرر دائما في أدبيات الاستشراق.

أخيرا، ينتقل إدوارد سعيد إلى آخر محطة في الاستشراق وهو الاستشراق الأميركي، والذي جاء كضرورة لطبيعة السياسات الاميركية إبان الحرب الباردة، ويلاحظ إدوارد أن الاستشراق الاميركي هو مسألة إدارية ومتعلقة بالسياسات، وليس للأدب الاستشراقي حظّ في التناول الاميركي للشرق، ولهذا تتسم النظرة الاميركية للشرق بالسذاجة خاصة في تصوير العربي بالمسرحيات والأفلام الهوليوودية بذلك الزي البدوي وتعميمه على العرب ككل.

تعليق عبر الفيس بوك