نقد الحال الراهن (11) الاتكالية

د. صالح الفهدي

تقول الأكاديمية السعودية د.خوله الكريع في "منتدى الغد": تعلمت درساً من معلمة ابني في أمريكا؛ فقد كنت أثناء وجودي هناك أمارس الضغط على ابني في أداء الواجبات ليكملها بامتياز ودون تأخير ليحرز أفضل النتائج؛ فقالت لي المعلمة الأمريكية: إنني أرى الواجبات المدرسية تحل بانتظام كاملة دون نقص.. قلت لها: أنا أساعده في حلها وأضغط عليه.. فقالت المعلمة: من الخير له أن يحرز مستوى (ب) وقد اعتمد على نفسه، من أن يحرز (أ) وهو معتمد عليك..!!

... إن ثقافة الاعتماد على الآخر وعدم الاعتماد على الذات متفشية في المجتمعات العربية الإسلامية؛ فأنتجت الاتكالية على الآخرين والاعتماد عليهم، بل والتبرم منهم والغضب منهم إن لم يقوموا بأداء الواجب بالإنابة والوكالة..! وما المحسوبية ولا الواسطة إلا نتيجة لثقافة الاتكالية والاعتماد على الغير..!

هي ثقافة نشأت في البيوت حيث الطفل في نظر والديه لا يستطيع أن يحرك ساكناً، ولا يقدر أن يعمل شيئاً؛ إما بسبب العاطفة الغير واعية، أو التدليل المفرط، أو الثقة المسلوبة؛ لذلك فإنه ينشأ وقد كبر في نفسه الإحساس بأنه عاجز، وفاقد للثقة في نفسه..! الواجبات لا يحلها إلا بالاعتماد على الوالدين أو أحدهما، ولو ترك ليحلها بنفسه فهل سيقابل في المدرسة بنفس فكر المعلمة الأمريكية..؟! يكبر ليصبح فتى فأبواه ينتقيان له ما يلبس، وما يختار من حوائج الطعام والمشرب...وغيرها؛ ليصبح معتمداً تمام الاعتماد على والديه على حساب ثقته في نفسه، أو تعلمه من تجاربه، ومع ذلك فإن الوالدين يتضجران من عبء المسؤولية، وثقلها على كاهلهما..!

لهذا؛ فإن الابن ينسى الواجبات ويتذكر فقط الحقوق لأنه عود على الحصول على الحقوق دون حثه على السعي نحو قضاء الواجبات، وإبقائه في دور المتفرج الذي لا يقوم بأي دور..! هذا السلوك الممتد يقوده لاحقاً إلى الغش في الامتحانات لأن والديه لا يستطيعان الحضور إلى قاعة الامتحان لمساعدته، ولو استطاعا الدخول لما تردداً ولحلا عنه الامتحان وتركاه يتفرج، ثم يفرح بالإنجاز والشهادة لاحقاً..!

هذه الثقافة تستمر معه كإنسان في حياته؛ فتجده يتصيد أفكار المجتهدين، وحصاد نجاحاتهم لينسبها إليه، ليغطي العجز الذي يشعر به داخلياً، وليظهر للناس بأنه صاحب إنجازات مرموقة في المجتمع، ثم ما يلبث أن يلهث وراء الشهادات العليا من كل باب؛ فالأقلام المأجورة تغنيه عن الاعتماد على ذاته من أجل إحراز إنجاز يتباهى به بين الناس..! أما عن المصالح فإن المفاتيح الاجتماعية التي بحوزته تستطيع أن تؤمن له دخولاً مريحاً من الأبواب الأمامية والخلفية للحصول عليها وتحقيق المكاسب الشخصية التي تنسب له فيما بعد على أنها نجاحات فردية، وينظر إليه على أنه إنسان عصامي في نظر المجتمع، وتحسب إنجازاته على أنها صورة من صور الاعتماد على الذات، والثقة بالنفس وهي في الحقيقة زيف مصطنع بني على أساس هش من أجل الوجاهة الإجتماعية..!

... إن مرحلة "الفطام النفسي" التي قصدها العالم النفساني الفرنسي موريس دبس هي مرحلة البلوغ التي يميل فيها الشاب المراهق إلى الإستقلالية في القرار، والتفرد في اتخاذه، والرغبة في إظهار قدراته الشخصية، وسماته الفردية، التي تفصله عن الكبار، هذه المرحلة جد خطيرة "مرحلة المراهقة"؛ لأنها تظهر نتائج التربية التي ترباها في سنيه الأولى، ومدى نطاق المسؤولية التي حمل إياها من قبل والديه ودرجة الإعتماد على الذات أو الاتكالية، وليس غريباً أن ينحرف بعض الفتيان في هذه المرحلة لأنهم يحاولون الاستقلال دون قاعدة رصينة، ويتمردون دون وجود قيم قويمة موجهة للسلوك السوي..!

هذه الثقافة العقيمة أنشأت أجيالاً عاجزةً، تنظر للحياة نظرةً وردية حالمة، تفتقد إلى الشعور بالمسؤولية لأنها لم تعود على الاعتماد على الذات، والثقة بالنفس، والالتزام الذاتي، فهي في كل شأن من شؤون حياتها تبحث عن طرف آخر تعتمد عليه، وتلقي إليه بكل ما تريد، وتحمله إخفاقاتها، فإن وجدته فقد وجدت ضالتها فيه، فهي لا تتورع عن الإلحاح في طلب المساعدة منه، فإن تعذر انقلب إلى عدو مبين..! وتلك النظرة ما كانت لتكون لو أن الإنسان تربى على الاعتماد على نفسه والتوكل على الله؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: "ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا" (الطلاق)، والنبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره (فيبيعها) فيكف (الله) بها وجهه خير له من أن يسأل الناس (أعطوه أو منعوه)"، فديننا يربي الفرد على الاعتماد على النفس، والتوكل على الله، لكننا أردنا طريقاً آخر حين حسبنا أن قضاء الحوائج في طريق الإيمان يحتاج إلى تصبر ورضا وقناعة ومجاهدة..! أردنا السهل الذي يأتي دون جهد، والمستساغ الذي ينساب دون مرارة، واليسير الذي يكون دون شقاء وكفاح..! فكيف نباهي بما نسميه نجاحاً إن لم يكن إنجازه قد تم بأيادينا؟! وكيف نفرح بالعمل إن لم يتمزج بلآلئ عرقنا؟! وكيف نتشدق بالكفاح إن لم يوصلنا إليه جسر النصب، والعناء..؟!

... إن ثقافة الاعتماد على الذات محبطة للإنسان منذ ولادته حتى موته، فهي تقتل في نفسه المبادرة، وهي تزيف له الكبرياء الواهم، وتصنع له الوجاهة الخادعة، لهذا فإنه لا مناص من تغيير هذه الظاهرة المتأصلة في مجتمعاتنا؛ وذلك بتعزيز قيم المسؤولية والاعتماد على الذات، والتوكل على الله، والثقة بالنفس، والإلتزام الذاتي، واستبدال فكرة التعليم بمنهجية التعلم الذاتي لكي يصبح الفرد معتمداً على ذاته في تعلمه وليس معتمداً على معلمه فيتحرر من "التعليم البنكي" الذي هو عبارة عن إيداع وسحب المعلومات..! وتقويم الذات بدلاً من الركون إلى التعلل بالمؤامرات..! وتغيير النظرة إلى الطفل بأنه لا يفهم ولا يعي ولا يعقل ولا يقدر إلى صانع حضارة، إلى صاحب إمكانيات وقدرات، يقول إيريك فروم "لا شيء أكثر تأثيرا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من إقناعه بأنه تافه ورديء"..!

وما لا يعرفه الكثيرون أن شخصية الإنسان تتشكل بنسبة 90 بالمئة في سنواته الست الأولى من حياته، يقول الكاتب الروسي تولستوي (1828-1910): "إن الطفل يستقي من الوسط المحيط به منذ ولادته وحتى سن الخامسة، أكثر لعقله ومشاعره وإرادته وطباعه مما يستقيه منذ الخامسة وحتى نهاية عمره"..!! لهذا فبقدر ما يربى على الاعتماد على الذات أو الآخرين ينشأ، وبقدر ما يحمل المسؤولية أو يتنصل منها يكبر، وبحسب ما ينمى على الثقة بنفسه أو تسلب منه ينمو.

فإذا كنا نؤمن بأن "العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنفش في الماء"، ونعتقد يقيناً بأن "ضربة واحدة على الجذور خير من ألف ضربة على الأغصان"، فإن تغيير هذه الثقافة المريضة لابد أن تكون في بواكير التنشئة، لكي تتخلص مجتمعاتنا من الاتكالية والتسويف والواسطة والمحسوبية...وغيرها من الأمراض المشينة التي أنهكتها وأخرتها في مسيرتها الحضارية!

تعليق عبر الفيس بوك