شرط لازم لمستقبل الديمقراطيَّة العربيَّة

علي فخرو

أظهرتْ ثورات وحراكات "الربيع العربي" -أينما حدثت- أزمة خانقة تعيشها الأغلبية الساحقة من الأحزاب؛ سواءً كانت قومية أو إسلامية أو يسارية أو ليبرالية.. لقد فشلتْ تلك الأحزاب في تقديم النصح والخبرة والمساندة للشباب الذين فجَّروا تلك الثورات والحراكات ليتجنّبوا ارتكاب الأخطاء والإسهام في قيادة الجماهير الغاضبة المشوّشة نحو مرافئ الأمان والانتصارات.

والواقع أنَّ تلك الأحزاب ما كان تاريخها، أو النواقص في أيديولوجياتها، أو مقدار امتدادها وتجذُّرها في المجتمع، أو فهمها للعصر الذي تعيشه الإنسانية قد هيَّأها لتقوم بتلك المهمات المطلوبة. وهكذا ضاعت فرصة تاريخية نادرة لتصبح بعض تلك الأحزاب أحزاباً قيادية تاريخية مثلما حدث في العديد من بلدان العالم.

تلك خلفية تستوجب طرح السؤال التالي: ما مستقبل الأحزاب العربية؟

الجواب أنَّ ذلك سيعتمد على مقدار مراجعتها، بصورة نقدية موضوعية تجاوزية، لماضيها من جهة، ومقدار شجاعتها ومرونتها لتبني أفكار ومنهجيات عمل جديدة صالحة لمتطلبات المستقبل السياسي العربي من جهة أخرى. وبالطبع سيختلف مقدار تلك المراجعة ونوع ذلك التبني من حزب إلى حزب آخر.

أما مراجعة ماضي الكثير من الأحزاب، فقد وضعت عنه كتب، وهو موضوع معقّد وبالغ الاتساع والتشعب؛ وبالتالي لا مكان له في هذه المساحة المحدودة. لكن بعض ما يجب التفكير فيه لتبنيه سنوجزه باختصار.

أولاً: لقد أصبح موضوع الديمقراطية موضوعاً سياسياً مفصلياً في حاضر المجتمعات العربية ومستقبلها، إنه موضوع الساعة. ولأنَّ هناك تباينات فكرية وتطبيقية، في العالم كله وفي الوطن العربي، فإنَّ الأحزاب العربية مطالبة بتفصيل ما يعنيه شعار الديمقراطية بالنسبة لها. وهي -أي الأحزاب- مطالبة على الأخص بالتأكد من أن شعار الديمقراطية لا يتعارض مع بعض شعاراتها الأخرى أو بعض ممارساتها التنظيمية.

فمثلاً: شعارات الحزب القائد والعنف الثوري، والأيديولوجية المطلقة التي لا ترى العالم إلا أبيض أو أسود، ولا غير ذلك من ظلال، تناقض الديمقراطية المبنية على النسبية والحلول التوافقية.

ومثلاً أيضاً: الحزب الإسلامي الذي يطرح شعار "أن لا حاكمية إلا لله"، فينفي بذلك المبدأ الدستوري القائل بأن الشعب هو مصدر السلطات، ويهيئ لهيمنة رجال الدين والفقه على التشريعات القانونية والحياة السياسية، لا يستطيع الادعاء بإيمانه بالديمقراطية. ولا يستطيع الحزب الإسلامي الذي لا يقبل في عضويته إلا المنتمين لمذهب معين، سني أو شيعي، أن يدّعي الإيمان بالديمقراطية التي تستوجب عدم التفرقة بين المواطنين في حقوقهم بسبب العرق أو الجنس أو الدين أو المذهب.

ثانياً: هناك قضايا حزبية تنظيمية قديمة تحتاج بالفعل إلى مراجعة؛ فمثلاً هل ستستمر الأحزاب في ترك أمر اختيار مرشحيها للنزول في الانتخابات البرلمانية والنقابية عن طريق لجان إدارية أو هيئات انتخاب داخلية، وهي المشهورة بانحيازاتها وتلاعباتها الحزبية، أم ستنتقل من أجل صالح المجتمع وتحسين الحياة الديمقراطية إلى طرح أسماء مرشحيها على جميع أعضاء الحزب وعلى جميع المسجلين من مناصري الحزب لاختيار المرشحين؟

ثمَّ.. هل سيظل انتقاء مرشحي الحزب للنزول في الانتخابات مقتصراً على السياسيين المخضرمين المحترفين من الرجال، أم أنه سينتقل إلى إعطاء اهتمام وأولوية للشباب والنساء والأقليات وللمهمشين الفقراء؟

ثالثاً: هل ستقوم الأحزاب العربية بعرض برامجها وقراراتها المفصلية على عموم المواطنين من خلال كل أنواع التواصل الاجتماعي الإلكتروني؛ وذلك للاستفادة من ملاحظات المواطنين واقتراحاتهم وإجراء التعديلات اللازمة في البرامج والقرارات قبل إقرارها النهائي؟

رابعاً: هناك الموضوع الأزلي المتعلق بالممارسة الديمقراطية الشفافة داخل الأحزاب نفسها؛ فالحزب الذي لا يُمارس الديمقراطية في داخله لا يستطيع الادعاء بأنه سيمارس الديمقراطية عند استلامه سلطة الحكم. ولنا عبرة فيما حلَّ من سقوط مذهل لبعض الأحزاب العربية التي وصلت إلى الحكم أو البرلمانات إبان السنوات الأربع الماضية؛ وذلك بسبب غياب الممارسة الديمقراطية فيها وفي أجهزتها القيادية.

لن يكون من الممكن المنطقي الحديث عن انتقال المجتمعات العربية إلى أنظمة ديمقراطية حقيقية ومستقرة دون حل إشكاليات الأحزاب العربية التاريخية من جهة، ودون تجديد لبعض أفكارها وشعاراتها ومنهجيات عملها في التفاعل مع المواطنين ومن دون تغيير جذري في تنظيمها لذاتها. مستقبل الديمقراطية في أرض العرب مرتبط بصورة وجودية بمستقبل الأحزاب العربية.

تعليق عبر الفيس بوك