ثقافة الادعاء والحرية الانتقائية

رحاب أبو هوشر

معظم النقاشات حول أزمات وإشكاليات الواقع العربي، يتم إنهاؤها بعبارات عديدة، تصب في فكرة حاجة البلاد والمجتمع لـ"صلاح الدين"، رمز المنقذ والمخلص والمحرر، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل والاجتماعي والثقافي والاقتصادي أيضًا. وناهيك عمّا يعكسه مثل هذا الكليشيه من موروث فكري وثقافي مرتبط بثيمة الرمز المقدس، بما يعنيه من إلحاح الصورة الذهنية للقائد الأسطوري، القادرعلى الفعل والتغيير وتحقيق الخلاص للبشر، مع الاستعداد لعبادة الزعيم الواحد والامتثال لإرادته، والإيمان بقدرته اللامتناهية على إدارة مصير بلدان ومجتمعات، وحل أزماتها الكبيرة منها والصغيرة، إلا أنّه يعكس مسألة أكثر اتضاحًا اليوم، وهي عجز كثير من الناس عن إحداث تغيير إيجابي ملموس، سواء في حياتهم أو في مجتمعاتهم، يتسق على الأقل مع شكواهم وتذمّرهم الدائمين، وفي نفس الوقت فإنّ استمرارية هذا العجز تفصح عن كم الادعاء المجتمعي في انتقاد المفاهيم والسلوكيات السائدة، وإظهار عدم رضاهم عن تخلفها، أو احتجاجهم على غياب مفاهيم المجتمع المدني، ومطالبتهم بحقوق الحرية والعدالة والمساواة.

والركون إلى عدم توفر نموذج "قائد" للتغيير، أو قوى ومؤسسات قادرة على ممارسة دور طليعي في المجتمع، يعد مبررًا كافيًا لكسل أولئك الناس عن المبادرة بأي فعل يسهم في إحداث ما يقولون أنهم يطمحون إليه من تغيير، ويعفيهم التواري خلفه من القيام بما يتوجب عليهم فعله إن كانوا حقا يعنون ما يقولون! إنهم صادقون في رفضهم للتخلف ومعاناتهم منه، ومؤمنون تماما بمفاهيم الحرية والقيم المدنية التي لا يتوقفون عن الحديث عنها، ولكنهم في انتظار ذلك "المخلص" الذي سيشق لهم الطريق، وعندها سترون ما سيفعلون!

يحار المرء في فهم ما تريده شعوبنا حقا، بينما ترجمة أفكارهم على أرض الواقع، وممارساتهم اليومية تتناقض مع الكلام الكثير الذي نسمعه ونقرأه يوميًا، وتعكس حالة السلبية واللامبالاة، والقبول غالبًا، بواقع متخلف طالت الفوضى كل مجالاته. ما أكثر مشاهد وقصص الضرب التي تتعرض لها نساء من قبل رجال، -أزواجهن غالبا، أو أطفال من قبل أمهاتهم وآبائهم، أمام الناس في الشوارع، دون تدخل من أحد لإيقاف الاعتداء أو استدعاء الشرطة. بعيدا عن ادعاءاتهم الكلامية، وفي عمق ثقافتهم، هم يؤمنون بحق الرجل في ضرب المرأة، وبحق كليهما في تأديب الطفل أو معاقبته بالضرب أيضًا، وربما يخمنون متهامسين دوافع الرجل لضرب زوجته، ليصلوا إلى نتيجة مفادها أنها تستحق الضرب، والقلة الأكثر إيجابية، لن تتدخل لقناعتها بأنّ ما يحدث شأن عائلي خاص. وهم أنفسهم من سيصابون بصدمة عند إقدام أب أو أم على قتل طفلهما تحت التعذيب/ التأديب، أو امرأة أفقدتها وحشية زوجها صوابها فقتلته، وسيصرخون محتجين مجددا إذا طالب ناشطون حقوقيون أو ناشطات بسن قوانين تحمي المرأة والطفل من العنف. على الجانب الآخر، أشارت دراسات كثيرة إلى أن نسبة النساء العربيات، اللواتي يتقبلن ضرب الذكور باعتباره حقا لهم، تتجاوز في معدلها 65%!

إنّهم يريدون من الغرب تقدمه العلمي والصناعي، لكنهم يمقتون الانضباط والجدية والبحث، ويعتمدون سبل الفساد و"الفهلوة" في الحصول على الشهادات الدراسية وفرص العمل، وتثير دهشتهم وأحلامهم قدسية حقوق الإنسان الغربي، ويدافعون بشراسة مظلمة عن بيع قاصرات لعجائز ويسمونه زواجًا، ويهاجمون من ينتقدون هذا "الزواج" بأنه مستلب للأفكار الغربية.

الجميع يتحدث عن الحرية، مع أننا حتى اليوم لا نمتلك تعريفا فكريا وثقافيا لمفهومها، يضمن تحقيق أهدافها في الاعتراف بالأفراد واحترام حقهم في الاعتقاد والاختلاف والتعبير والعيش. ما لدينا عن الحرية مفهوم طارئ فضفاض وغائم، يستخدم على نحو انتقائي، ليخدم تشظي المجتمع إلى فئات وجماعات لها الحرية في سحق الأخرى وإلغائها. كيف لا نكون شعوبا مدعية، عندما تنادي نسبة كبيرة من الناس، بفرض رقابة على الإنترنت ومحتواه، وتطالب بحجب مواقع ومدونات، -كثير منها فني وسياسي- بذرائع عديدة، أهمها الخطر على ثقافة وقيم المجتمع "الخاصة"؟ لكنها لفرط إدراكها لقيم الحرية، لا تجد في المواقع الدينية الطائفية، والتي تحتل اليوم مساحة كبيرة من المحتوى العربي للإنترنت، أي خطر يذكر على قيم المجتمع؟! كيف ينسجم ادعاء مطلب الحرية مع ذهنية الوصاية على المجتمع، ومصادرة وعي الآخر وخياراته؟ النسبة ذاتها تمارس دورا أمنيا، بل وتطالب بتدخل أجهزة الأمن ضد فعاليات وأنشطة اجتماعية وثقافية وأحيانا ضد أشخاص، وهي التي يخرج من بينها مطالبون بالحرية!

تعليق عبر الفيس بوك