كتاب "النباهة والاستحمار" للدكتور علي شريعتي

صالح البلوشي

يُعتبر كتاب "النباهة والاستحمار" أحد أشهر كتب المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي (1933 - 1977). والكتاب صغير الحجم، وعبارة عن محاضرة ألقاها المؤلف في قاعة "حسينية الإرشاد" الشهيرة بطهران، وُطبع ضمن مشروع دار الأمير بلبنان في طباعة ونشر الآثار والأعمال الكاملة لشريعتي. يطلق الإيرانيون على شريعتي لقب " معلم الثورة " والأب الروحي للثورة الإيرانية التي اندلعت سنة 1979 واستطاعت الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي الذي كان يحكم البلاد مدة ألفين وخمسمائة سنة. وقد أسهمت كتابات الدكتور علي شريعتي ومحاضراته التي كان يلقيها في مختلف المدن الإيرانية في صنع الأيديولوجيا السياسية والدينية للثورة، التي استطاعت بقوتها جذب الآلاف من الشباب الإيرانيين الذين كانوا يتوقون للحرية والاستقلال إلى صفوف المناهضين لحكم الشاه والالتحاق بالثورة.

يُعرِّف شريعتي الاستحمار بأنه "تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية فردا كان أو جماعة وأي دافع عمل على تحريف هاتين النباهتين أو فرد أو جيل أو مجتمع عنها فهو دافع استحمار."

ويتخذ الاستحمار في حركته في الواقع الاجتماعي والسياسي في المجتمع أشكالا مختلفة، ووسائل متنوعة. ويستعين في ذلك بتوظيف المناهج البحثية الحديثة في دعم أشكالها وطرقها، مثل: علم الاجتماع، ووسائل الإعلام بأشكاله المختلفة، وكلها تشترك في هدف واحد وهو تحريف وتزييف القضايا الأساسية للمجتمع لصالح قضايا أخرى هامشية.

وإلى جانب الاستحمار السياسي يرى شريعتي بأن الاستحمار الديني هو أقوى أنواع الاستحمار وأكثرها تأثيرا في النفوس؛ لقدسيّة الدين في المجتمعات الإنسانية. وهناك شواهد متعددة من التاريخ على لجوء الكثير من الأنظمة الاستبدادية إلى توظيف الدين لمصالحها السياسية، بما يخدم خطها السياسي واستمرار وجودها في السلطة، وذلك عن طريق تأويل النصوص الدينية تأويلا متعسفا تضمن تخدير المجتمع وإشغاله بقضايا شكلية لا علاقة لها بجوهر الدين ورسالته؛ مثل تحريم الموسيقى، والموقف من الفن والأدب وغيرها. إضافة إلى تعمد إثارة الجدل حول بعض القضايا والسلوكيات التي تدخل ضمن إطار الحرية الشخصية للفرد، وخاصة التي تتعلق بقضايا المرأة، مثل: حقها في العمل، وحقها في الطلاق والزواج وغيرها. ومن أبرز الأساليب التي يلجأ إليها الاستحمار الديني الدعوة إلى الزهد، والانصراف عن قضايا المجتمع، وإثارة القضايا الطائفية والقبلية وربطها بالدين والوطن وغيرها، أو البحث في قضايا أكل عليها الدهر وشرب ولا تمت للواقع المعاصر بصلة. وقد أدى الاستحمار الديني إلى حدوث ردّات فعل معاكسة ومتطرفة في المجتمع، حتى وصف فيلسوف الاشتراكية الكبير كارل ماركس الدين بأنه أفيون الشعوب، ووسيلة لتخدير الجماهير، وقد فصّل شريعتي هذا النوع من الاستحمار في كتابه "دين ضد الدين".

ومن أشكال الاستحمار الديني منع وإقصاء كل قراءة للإسلام تخالف القراءة التقليدية للمؤسسات الدينية الرسمية، مثل الضجة التي أثارها الأزهر وبعض المؤسسات الدينية في مصر مؤخرا على أفكار وأطروحات الباحث الإسلامي إسلام بحيري، واتهامه بتشويه التاريخ والفقه الإسلامي، والتطاول على علماء الأمة ورموزها الدينية الكبيرة. وهذه الضجة جاءت بدعوى أنه غير متخصص في الفقه الإسلامي، على اعتبار أنه يتحدث ويناقش قضايا من اختصاص الأزهر الشريف فقط والمؤسسات التابعة له. وهي دعوى كهنوتية تهدف إلى حصر فهم القضايا المرتبطة بالإسلام فقها وأصولا وتاريخا بعلماء الأزهر فقط، ومحاولة لفرض وصاية هذه المؤسسة الدينية على الأفكار الأخرى في المجتمع.

ويرى الدكتور علي شريعتي بان هناك اتجاهين لحركة الإستحمار في المجتمع، وهما: الاستحمار المباشر ويسميه بالتجهيل، وغير المباشر وأسماه بالإلهاء. فالأول عبارة عن "تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة أو سوق الاذهان إلى الضلال والانحراف" أما الثاني وهو الإلهاء فيعني بها "إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللا فورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية".

ومن أجل مواجهة الإستحمار يرى شريعتي أنه ينبغي على الفرد والمجتمع التمسك بالنباهة التي يُعرّفها بالوعي أي: وعي الإنسان بوجوده في دائرة الحياة وبالظروف التي تحيط به في مختلف الجوانب سواء السياسية منها أو الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية على المستوى الفردي والاجتماعي والتاريخي ويقسم شريعتي النباهة إلى نباهة نفسية (فردية)، ونباهة اجتماعية، فالأولى: هي النباهة الموجودة عند الفرد بالنسبة إلى نفسه بمعنى: أن أرى نفسي مقابل محاولة الآخرين التحقير بي وتقزيمي، وأن أثق بإمكانياتي مقابل محاولة الآخرين التشكيك بي وبقدراتي الفكرية والثقافية والمعرفية والسياسية وغيرها، وأما النباهة الاجتماعية: فهي تتعلق بوعي المجتمع بحقوقه وواجباته سواء الاجتماعية منها أو السياسية وكذلك الوعي بالممارسات التي تجري في العلن والخفاء من اجل زرع قيم الخوف والضعف في المجتمع وإشغاله بالقضايا التافهة والانغماس في الثقافة الاستهلاكية التي يراد أن تجعل منه مجتمعا استهلاكيا فقط يعتمد على الآخرين. يقول الدكتور علي شريعتي في خاتمة كتابه: "إن أي قضية فردية كانت أو اجتماعية أدبية كانت أم فلسفية دينية أو غير دينية تعرض علينا وهي بعيدة عن النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية ومنحرفة عنهما هي استحمار قديم أو جديد مهما كانت مقدسة".

لقد دفعت الإنسانية ثمنا غاليا - وما تزال تدفع حتى اليوم- نتيجة الاستحمار التي يُسلّط عليها بأشكاله المختلفة، وقد آن الأوان أن تتحلى بالوعي والمعرفة من أجل التحرر من ذلك وبناء مجتمع فاضل بعيد عن الاستحمار.

تعليق عبر الفيس بوك