نقد الحال الراهن (2).. الفوضى

د. صالح الفهدي

قال لي مُعلِّم عربي منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً بعد أدائه مناسك الحج وهو يشعر بامتعاض وتذمُّر: والله لو أنك رأيت أحوال المسلمين في الحج لفقدت أملك في أن تقوم قائمة للمسلمين في يوم من الأيام....!

كان يقصد الفوضى التي تعتريهم، وعدم التنظيم الذي يسودهم، والضوضاء التي تصاحبهم، والهرج الذي يلازمهم، وها هي الصور ذاتها تتغيَّر لكن شكلها العام ظل ثابتاً..! ولا يفهم من هذا مكان العبادة فحسب، بل القصد كافة شؤون الحياة في مناح كثيرة، ومواطن متعددة.

وها أنا أستحضر العبارة دون استذكار مجهد ودون بالغ مشقة، وأنا أرى حالة بعض المسلمين الذين لا يدركون المغزى الروحاني للعبادة وقد يكونوا معذورين في ذلك إذا ما أرجعنا الأمر إلى أصول التنشئة من تربية وتعليم وتهذيب وتفقيه في الدين، لكن أمر الفوضى ليس محصورًا في أماكن العبادة فحسب، بل في الكثير من شؤون الحياة... الفوضى المادية والمعنوية!

والفوضى التي تعمُّ لها أوجه مختلفة أخطرها الفوضى التي تسود القلب، كما يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: "من الخطأ الكبير أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك". فليست الفوضى الخارجية إلا انعكاس لفوضى الداخل من عدم انضباط في المشاعر والانفعالات، وضبابية في الرؤية والأهداف.

... إنَّ الدينَ اهتمَّ بدرجة الصوت عند الكلام، فقال سبحانه مهذباً: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" (الحجرات:2)؛ فالصوت إن ارتفع أصبح مؤذياً، نشازاً لا يُحسن الاستماع إليه، كما أنَّ مِنْ تحضُّر الإنسان خفض الصوت عند الكلام إلا طلباً للحق. أما الأصوات النشاز فهي التي لا يطيب لها حديث إلا بالصراخ، ولا ضحك إلا بالقهقهات، ولا حوار إلا بالصخب، ولا جدال إلا بالجلبة، ولا معاملة إلا بالضجيج.

والإسلام اهتمَّ بالنظام الاجتماعي المبني على الدقة في شؤون الحياة، والتهذيب في القول والفعل واللباس والمظهر. أما أن تسمع من المسلم هرجاً، وترى له مرجاً فقد أساء الظهور المشرف؛ لأن المظهر الحسن لا بد أن يقترن بجوهر حسن، لا أن ترى التدافع للصلاة، والتزاحم للعبادة مظهراً من مظاهر الدين، والقفز فوق الرقاب، ودهس الأجساد، علامةً من علامات طلب الأجر والثواب..! تقول إحدى المعتمرات: "ما إن فتح الطريق إلى قبر النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- حتى تسابقتْ الحشود، فأصبحت كالموج المتلاطم، وكدتُ أن أختنق فتلوت الشهادة من هول ما شهدت من كربة..!" قد لا يقصد الناس الإيذاء؛ لأن الموقف يفرض عليهم إحداث بلبلة وفوضى، ولكن إن الاستشعار بروحانية العبادات لا يتحقق في مثل هذه المواقف المربكة التي يفكر فيها المرء بإنقاذ نفسه..! يجاهد في شدتها كي يتنفس داعياً الله أن يخرجه حيًّا من تلك الجموع المتدافعة..! وهكذا هو التدافع نحو الحجر الأسود للمسه وتقبيله..! الأجواء الروحانية تحتاج إلى وعي عميق بحكمة التشريع، وسداد العقيدة قبل أن تؤدى العبادات فتصبح خاويةً من المفاهيم الروحانية العميقة، حينها لا يخالج المرء أي شعور بالاستغراب من جراء فوضويته، بل يراها واجبة حتى وإن كان يدفع بجسده طفلاً ضعيفاً، أو يكتسح شيخاً هزيلا..!

والإسلام اهتمَّ بحُسن الهيئة، وأناقة المظهر فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قال رجل: إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً، قال: "إنَّ الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس" (حديث صحيح). لكن تجد من المسلمين من لا يولون اهتماماً بحسن المظهر، وأناقة الهندام، وهذه من مقتضيات الظهور الحسن للمسلم، بل وعلامة الاقتداء به، يقول محمد راتب النابلسي: "الله عزَّ وجل يحب الجمال في الأقوال والأفعال، واللباس والهيئة، ويبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة". ويضيف: "والله نحن ببلاد شهد الله بشرق آسيا النظافة هناك شيء لا يصدق، الأناقة، لا تجد سنتيمترًا خطأ بالبلاد كلها، كله عشب أخضر، ورود، حدائق، فإذا كنت كما كان -عليه الصلاة والسلام- فأنت مسلم، دعيت إلى عقد قران، يكون عندك ثياب جميلة، لا أقول غالية أبداً، لكن يجب أن يكون لك ثياب خاصة بالحفلات تمثل الدين، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك".

فلماذا يهولك في بلاد الإسلام القمامات المتراكمة في الحارات والشوارع، وتنقبض نفسك من عدم التنظيم في الأبنية والشوارع، وتزعجك فوضوية الإجراءات المتبعة في مختلف الشؤون التي تمس حياة البشر..؟! أليس الإسلام هو دين التنظيم، والنظافة، والإحكام والإجادة؟! أين عقول المسلمين من هذه القيم الإسلامية؟!

... إنَّ النظافة في الإسلام رُكن أساسي في الطهارة، فلا تصح صلاة دون وضوء؛ أي دون نظافة، ولا يمكن قبول أي تعبد على نجاسة، وقد قرنت النظافة الجسدية بالنظافة الوجدانية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء". لهذا فإنَّ عدم اعتناء المسلم بنظافته الجسدية أو نظافة ثيابه يسبب النفور منه في نفوس الآخرين، ولا يتقبله أهله، فأي خير في عبادة لا تورث نظافةً حسية ومعنوية، وأي إحسان في مسلم لا يعتني بنظافته الشخصية وهو يزعم التدين، والالتزام بأخلاقيات الدين الرفيعة؟!

لا شكَّ أنَّ المسلم المهذب لفظاً، الراقي سلوكاً، المتأنق هنداماً، الجميل هيئةً، الزكي رائحةً، هو الأقرب إلى صورة المسلم، ليس ذلك أشعث الشعر، مهلهل الثياب، منتن الرائحة، صاخب الصوت، فوضوي السلوك؛ فالنبي الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- حين شبَّه الأصدقاء ذهب تشبيهه للصديق الحسن كحامل المسك، وحين ذكر ما يحب ذكر الطيب، والنساء، والصلاة.. وقد أُثر عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان (ص) يحمل معه في السفر: المرآة، والمكحلة، والمسواك، والمقراض (المقص)، والمشط، وقارورة الطيب، وإبرة وخيوط، فكان ينظر في المرآة، ويتمشط، فيقول لأصحابه: "إنَّ الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل"، ويقول "من كان له شعر فليكرمه" صحيح الجامع.

هُناك من المسلمين من يدخل على زوجته وهو كريه الرائحة، نتن الجسد، في مقابل ذلك يريدها أن تفوح عطراً، وتزدان زينةً، فأي منطق أعوج هذا؟! يقول سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: تصنعوا لنسائكم، فإنهن حببن منكم ما تحبونه منهن"، ويقول عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي.

هذه مظاهر حسية جماليةً بديهية حثَّ عليها الإسلام، لا يمكن أن تعكس إلا جناناً زكياً، ونفسياً طاهرة، أما طول التخشع في المساجد مع عدم اعتناء بالجسد وفوضاوية عارمة في الحياة فليس ذلك من منهج الإسلام في شيء..! إذ لا يمكن أن يكون هذا الدين الراقي في كل شيء معواناً على الفوضى العارمة التي تحدث في أماكن مقدسة، أو الهرج والمرج في الأسواق، أو الشوارع أو الحياة العامة، وليس حال الكثير من المسلمين الذين تخلوا عن النظام والترتيب، والأناقة والتهذيب، ليحسب من الإسلام وهو بدعة منهم ظناً منهم أن المسلم لا يعنيه تجمله، ولا حسن هندامه، ولا طريقة كلامه، أي لا يعتني بالظاهر بل بالجوهر، وهل حسن المظهر إلا دليل في حقيقته على حسن الجوهر؟!

المسلم مرآة دينه، فإن القوة لا تعني السلطة والنفوذ والجبروت والبطش، بل تعني أيضاً الانسجام في الأفكار، والوضوح في المبادئ، والتأدب في الحديث، والأناقة في اللباس، والجاذبية في المظهر، وكل ما يرى في الإنسان المسلم من آداب ومظاهر تعكس في غالبيتها -إلا القليل- يعود إلى فهمه أو جهله بأصول الدين وحكمة التشريع في منهاجه الحكيم.

تعليق عبر الفيس بوك