كرة القدم بين الحب والكره (1)

عيسى الرَّواحي

تعتبر الرياضة من الضروريات التي يحتاجها جسم الإنسان؛ فهي من العوامل الرئيسية لصحة دائمة، كما أنَّها وقاية من كثير من العاهات والأمراض، ودواء ناجع لحالات وعاهات متعددة يعانيها الناس اليوم، وحتى على المستوى العقلي والتفكير، فإنَّ للرياضة دورا واضحا لتفكير سليم وتخطيط متقن؛ فالعقل السليم في الجسم السليم، إضافة إلى كونها تقوم بدور ملموس في تخفيف الضغوطات النفسية التي أصبحت من سمات العصر.

وحسب إحدى الدراسات الاجتماعية، فإنَّ الرياضة تقوم بدور بارز في تغيير السلوكيات الخاطئة عند المراهقين، كما أشارت دراسة أمريكية -صدرت في العام 2007م- إلى أن الرياضات التي تتطلب لياقة بدنية عالية ومهارات جسدية تثني ممارسيها عن احتساء الكحول والتدخين، وتحمي المراهقين من تلك اﻵفات الاجتماعية، فضلا عن كونها توطد الرابط بين الجسد والبيئة الاجتماعية السليمة. والرياضات المفيدة التي يمكن أن يقوم بها الجسم عديدة وكثيرة لا حصر لها، ولعل السباحة والرماية وركوب الخيل من الرياضات المهمة التي حثَّ عليها سلفنا الصالح.

وفي العصر الحديث تُعتبر كرة القدم الرياضة الشعبية الأولى على مستوى العالم التي تحظى باهتمام منقطع النظير ومتابعة كبيرة؛ حيث تسخَّر لهذه الرياضة الأموال الطائلة والإمكانات الكبيرة والجهود الجبارة والأوقات الثمينة، وتعد لها الخطط والدراسات والبرامج، وتخصص لها القنوات والمجلات؛ إذ لم تعد مجرد رياضة فحسب؛ وإنما ميدان تنافس محموم بين الدول والبلدان، وسعار كبير لرفع أسماء شخصيات وأفراد، كما أنها أصبحت مصدر رزق لملايين الناس. وفي الجانب الآخر، مصدر فقر وسلب لميزانيات دول أخرى.

ومن الناحية الشرعية، لا يُوجد هناك قول مُعتدل يحرِّم لعب كرة القدم؛ وإنما يبدو التحريم في الممارسات التي ترتكب أثناء القيام بهذه الرياضة كإظهار العورات وتضييع الصلوات وإبداء الشحناء والعداوات، والوقوع في آفات اللسان وموبقاتها، بل يمكن أن تكون ممارسة كرة القدم عبادة يُؤجر عليها صاحبها إذا قصد من خلالها رياضة الجسم والتعارف، وجعل نيته خالصة لله بهذا القصد، ولم يرتكب من خلالها محظورا، ولم ينشغل بها عن ما هو واجب؛ فالدنيا بأعمالها مسرح للعبادات كما قال أحد العلماء، شريطة أن يستحضر صاحبها النية ويجعلها خالصة لله تعالى وحده.

لن أخوض كثيرا في بحر كرة القدم الواسع، ولست أهلا لذلك، ولا حاجة لي به، كما أنَّني لست معنيًّا بذلك؛ وإنما أريد أن أُبحر في أمر هذه الرياضة على مستوانا المحلي وما لها وما عليها، وأبعادها وآثارها وتأثيرها على الجوانب الدينية والاجتماعية والأخلاقية والتعليمية والاقتصادية، وهنا أعبِّر عن وجهة نظري الشخصية، وللجميع حق قبولها أو رفضها.

إنَّني أُحب كرة القدم عندما تُمارس كرياضة للجسم وتقوية للبدن وترفيها للفكر والعقل، لا كلعبة تستمد خيوطها وحبائلها من اللهو والعبث والجنون يدعمها عدو الإنسان المبين ألا وهو الشيطان الرجيم؛ فيُعدم فيها النافع ويعظم فيها الضار، ويندر فيها المحمود ويكثر فيها المكروه.

إنَّني أحب كرة القدم عندما تمارس في حدود الشرع الحنيف والمنهج القويم؛ فلا يُلعن الناظر ولا المنظور إليه، ولا يُفوت ركن الدين القويم، ولا يسجل العتيد على منطوق اللسان الأمر الذميم.

إنَّني أحب كرة القدم عندما يخرج ممارسوها بلياقة عالية وصحة وعافية تحفزهم للعطاء والكفاح في الحياة وتعمير الأرض، وأمقتها كرها عندما تكثر إصاباتها ويعظم بلاؤها على أصحابها، وأشد مقتا لها عندما يكون ذلك عمدا وحقدا بين لاعبيها.

إنَّني أحب كرة القدم عندما تُمارس بوسطية واعتدال وإيجابية وتنظيم وقصد منفعة ومصلحة لا يهدر فيها الوقت الثمين، ولا تضيع بسببها المصالح، ولا تفرط لأجلها الواجبات، وإلا فإنني أشد المبغضين لها.

إنَّني أحب كرة القدم عندما تمارس في حدود الآداب والأخلاق والفضيلة وتجعل أفرادها كالإخوان فلا بذاءة لسان، ولا مشاجرة صبيان، ولا شحناء ولا بغضاء، ولا أي مسلك من مسالك الشيطان.

إنَّني أحب كرة القدم كرياضة لا كلعبة، وأحبها عندما نكون إيجابيين في ممارستنا لها، راقين في التعامل مع الطرف الآخر، وأحبها عندما لا تكون مصدر استنزاف لثرواتنا. وأما عندما يكون الأمر خلاف ذلك، فأنا مُبغض لها.

ولكن ما هو واقعنا مع كرة القدم؟

إنَّ واقعنا يتحدَّث ولا يحتاج لشاهد، وينطق ولا يحتاج لكاتب، ويُثبت ولا يحتاج لبرهان أنَّ كرة القدم قد أفسدتْ على كثير من الناس دينهم وعلمهم وأخلاقهم ومالهم.

فعندما نقترب بالصورة أكثر، ونحكي الواقع عن قرب في واقعنا المحلي، نجد أنَّ كرة القدم تتقدَّم خُطوات حثيثة وخُطى ثابتة نحو غزو العقول والقلوب، وامتلاك أغلى ما يملك الإنسان من وقته وقيمه ومبادئه؛ فباتت كرة القدم الشغل الشاغل والحديث الدائم والفكر الراسخ عند طائفة كثيرة من شبابنا وطلابنا وكبار السن كذلك، وليس الأمر مقتصرا على ممارستها كلعبة أو رياضة؛ فهذا أهون بكثير ولعلَّ فيه خيرا، ولكنها المتابعة عبر الشاشات أو في المدرجات إلى حد مفرط مذموم، والشغف الكبير بها.

لم تعد كرة القدم عند كثير من الناس مجرد ممارسة رياضة فحسب، ولا هواية تمارس وتتابع في حدود المعقول فقط، وإنما صارت فكرا وثقافة وعصبية قومية؛ فأفسدت بذلك ما يعز فساده، ويعظم إصلاحه، وصار المغرمون بمتابعة هذه الرياضة أضعافَ أضعاف من يُمارسونها، ولا أبالغ إن قلت إنها قد شغفتهم حبًّا، وتغلغلت في دمائهم وسرت في شرايينهم، وإن هذا لعجب!

وليت مُتابعة الكرة عبر شاشات القنوات اقتصرت على المتابعة فقط، بل باتت بلايا عظم بلاؤها ودهماء عمَّ خطرها؛ إذْ هدرت أوقات ثمينة بالليل والنهار تضيع على إثرها حقوق أسرية وأعمال منزلية يعقبها ضياع واجبات دينية، وأصوات مبحوحة مصحوبة بألفاظ ذميمة وأعصاب مشدودة، تعرض أصحابها لأزمات مرضية، تعقبها إنهاكات ومتاعب بدنية وضياع لواجبات العمل وحقوق الوطنية، والأسوأ من ذلك والأشد أسفا وحسرة أن متابعتهم لها لم تكن بغرض الإفادة من فنهم ومهاراتهم في هذه الرياضة، وإنما مُتابعة مقيتة ولدت حمية جاهلية وولاءات عمياء وتقليدا أعمى لمنتخبات أجنبية وأندية أوروبية يظهر أفرادها العداء لأمة الإسلام سرا وعلانية، ونحن مولعون بهم، وشغفنا كبير بمتابعتهم، والأدهى والأمَر من ذلك أن ينقسم أفراد البيت الواحد والمؤسسة الواحدة والبلد الواحد إلى أعداء وخصوم في اختلاف ولاءاتهم للفرق وانتماءاتهم للمنتخبات؛ فيحدث حينها الخصام والشقاق والتنابز بالألقاب، وتكثر الشتيمة والسباب.. وإني لأعجب كل العجب ممن اشتعل رأسه شيبا ولا يزال مديمَ السهرات على متابعة المباريات، ومضيع الأوقات على تقليب القنوات في تتبع أخبار الأندية والمنتخبات!!

وللحديث بقية -إنْ كان في العمر بقية- في المقال القادم بإذن الله تعالى.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك