قد آن للقلم أن يتنفس

د. سعيدة بن خاطر الفارسية

لحظة الكتابة، هي لحظات من العشق المتبادل بين الكاتب وحروفه، فما الذي جعلني أترك معشوقتي ولا أعير الكتابة بالاً طوال سنة مرَّتْ، لقد توقفتُ برغبتي، وعندما قررتُ العودة لم أجد اليد التي تعزف على نوتة الحروف، ولم أجد القلم الراقص على البياض، ولم أجد الكلمات.. فكأنما قد طويتْ الصحف وجفتْ الأقلام، وتبدَّدتْ الرغبات.

ويسألني الأحبة: أين مقالاتك؟ ابتسم مجيبة: "قريبا، بعد عيد الفطر إن شاء الله".. ومرّ العيد، ويتكرر السؤال: أين مقالاتك؟ وأقول: "قريبا، بعد عيد الأضحى إن شاء الله".. ويمرُّ عيد الأضحى، ويتكرَّر السؤال: أين مقالاتك؟! ويأتي الجواب: "قريبا، بعد العيد الوطني"، ويتكرَّر السؤال: أين... وأين..؟!

ساعتها، أدركتُ أنَّ الكتابة لن تأتي بعد الأعياد، وأنها -كما ثبت لي- تنتظرُ عيدًا آخر.. عيد يُرواغنا من بعيد، ولم تصل أنواره وأفراحه بعد، ويظهر جلالته على التلفاز، فنُدرك أنَّ القلوب في عُمان كلها كانتْ في حالة يُتم، كانت تتمسَّك بقشة الصبر الهائمة في اللا قرار، كانت القلوب تتسربل القلق، وتقتات الألم والحيرة، كانت مُعطَّلة ثم تنفسَّتْ الصُّعداء، إذن الخلل ليس في قلمي؛ فقلمي الذي نسي الكلام تكلم بعد رؤيته، منغما تساؤلاتي شعرا.

العيدُ أنت وزهوه لقياكا...

والعاطراتُ من الشذى ذكراكا

يا من بنى وسط القلوب...

مهابة ومحبة ماحازها إلاكا

أنتم عمانُ وعنفوانُ جمالها...

والمبهجاتُ من السنين رؤاكا

فحلاوة الأعياد بسمتك التي...

ما أشرق القلبُ بها لولاكا

العيد مرَّ مؤجلا أفراحه...

وسنلبس الأفراحَ حين نراكا

نعم... مرَّت الأعياد بلا عيد، ونعم لبسنا الأفراح بعد أن رأيناه يخطو على وقع بسم الله تصدح بها العيون والأرواح والقلوب، لقد عيدت عُمان برؤيته، وفكتْ عنها الصمت المسيج بالحزن والخوف؛ فجاء حديثُ القلوب فيَّاضا بالحب والأمل والرجاء، وتغنَّى قلمي الأبكم بعد أن استرجع عافيته وصوته:

فرشنا القلوبَ لتخطو عليها...

وفي كلِّ خطوٍ تبسملُ لكْ

فإنَّ القلوبَ تدثرُكم...

بماءِ المحبةِ وتسجدُ للهِ أن زملك

دثارَ السلامةِ والمنجياتِ...

وتزهرُ أدعيةً، غيمُها ظللكْ

وأنها قد فارقتنا طوووويلا...

وماعاد نبضُها إلا معك

فأنتم لها الخفقُ نبضُ الدما...

تسيرُ بركبك حيثُ سلكْ

يا لهذا الحب المكنون، والذي تفجَّر ينابيعَ سالتْ وتدفَّقتْ حتى وصلتْ إليك هناك؛ حيث دثرتك دفء المشاعر وصادق الدعوات، تُرى هل كان هذا الشعب يعرف أن دماءه تنبض بحروف اسمك، وأن قلبه يخفق بسماع صوتك، وأن أعياده لن تكون إلا برؤيتك، كثيرا ما سمعتها: "ليتنا شعراء، كنا قلنا وكتبنا كل ما يموج في داوخلنا من مشاعر وعواطف وأحاسيس".. لكن الناس تعتقد هذا، والحقيقة تجافي هذا الاعتقاد، الحقيقة وَحْده قلمي الذي استوعبها وفهمها، ولهذا صام طويلا، طيلة غيابك، وصام مُؤقتا في فورة الانفعالات وانبجاسات الدموع، والآن وبعد أن هدأتْ المشاعر وتدفقتْ الأقلام، واطمأنتْ النفوس لسلامة سلطان القلوب، الآن فقط آن لقلمي أن يعُود للحياة ويتنفَّس عِشْقا، لقد كان مُثخنا بالألم الذي سلبه طاقات الحماس والتدفق، حقا إنه حُبٌّ من نوع خاص، يتساءل الناس في الخارج: ما كل هذا الحب لسلطانكم؟ وهل أنتم صادقون في كل هذا!! ليتهم يعرفون أن محبَّته قد تجاوزتْ مرحلة الحب إلى العشق الكبير، لأن حبَّه هو حب عمان؛ فهي عُمان قابوس، وهو قابوس عُمان، ومَنْ لا يحبهما معا؟! ومَنْ يستطيع الفصل بينهما؟!

وللعشق بين قابوس وشعبه حكايات مُتعدِّدة ومُتجدِّدة:

- حالة أولى: كانت واقفة سمعتْ أن السلطان عاد، دارتْ على نفسها دورات سريعة، ثم أُغمي عليها... بعد رشِّ الماء البارد والصراخ والتجمُّع حولها من أولادها اليتامى، صاحتْ: أين هو أبو الأيتام؟ أين هو أبو الأيتام؟ أشار ولدها للتليفزيون، لا شعوريا ركضتْ للجهاز تحضنه وتبكي وتكرِّر: الحمد لله، الحمد لله. وأتمَّتْ الحمد ساجدة على حصير الغرفة الصلب، اعتقدنا أنها فارقتْ الحياة لولا نشيج بكاء خفيف.

- حالة ثانية: من بَيْن أنين الوجع في سنواتها التي تجاوزتْ الثمانين، تكلِّمني بحُزن: متى سيرجع السلطان؟ رفقا بحالتها أفتيتُ: قريبًا جدًّا إن شاء الله. والحقيقة ليس المسؤول بأعلم من السائل، وأنا بنفسي أريد من يطمئنني، قالتْ: لم أكن أحبه، بل كنت أكرهه -طبعا أنا أعرف هذا؛ فأخوها ممن أُعدموا في بدايات عهد جلالته، وكان من ضمن الثوار- حكايتها معروفة لدى أبناء جيلها، أكملتْ حديثها: هل تعلمين أنَّني رأيتُ السلطان بالأمس في المنام بكامل صحته، وهو يبتسم لي قائلا: "أنا لم أقتل أحدا"، ولكنني كنتُ في الحلم مُستاءة وبغضب كل السنين قلتْ: إذن من؟! قال: "لستُ أنا.. أقسم بالله لستُ أنا"، ولأنني لم أعاصر تلك الفترة لكنني سمعتُ من الكبار أنَّ جلالته كان مسافرا، وأنه عندما عاد لم يكن راضيا عمَّا حدث؛ فقد فهم أحدهم الموضوع خطأ، وأكملتُ: "ألا ترين أنه دائم العفو حتى عمَّن أساء إليه؟!، إنَّ السلطان لا يُحب الدماء والقتل والحروب، بل هو داعية سلام وأمن". قالت: "هل أنت مُتأكدة أنك سمعتي هذا؟!". قلتُ: سمعتُ، وأقسم لكن العُهدة على الراوي. قالت بفرح: إذن، هو علم وليس بحلم، والله إنها رُؤيا رأيتها بكلِّ وضوح بعد صلاة الفجر، يعتقد البعض أنني لا أحبه، وأنني أشهد الله أحببته منذ رأيت عُمان تتغيَّر على يديه، وأولادي يتخرَّجون في جامعة تحمل اسمه، الطبيب والمهندسة وكابتن الطيران، والله لقد أحببته، وغرستُ هذا الحب في أولادي، وحدي التي كانت الذكريات تؤرقها، اليوم هل تصدقين أنَّني أدعو له في كل صلاة وفي كل حين؟! لو كان لي بقية من عمر، يا رب خُذها مني وردها على قابوس بن سعيد، فهو الذي تحتاج إليه عمان كلها، تحتاج لقلبه وحكمته وشجاعته. ظلَّتْ تردد: "يا رب خذ من أعمارنا وأعطيه". وبعد انتهاء الدعاء، قبَّلتُ يديها ورأسها، وهي تضغط على يدي: "بشِّريني بعودته، ولك البشارة مني، لك البشارة". سألتها بحُبٍّ: "هل تعرفين أنَّ الدعاء الصادق يُطيل العمر؟". هزتْ رأسها ودخلتْ في نوم عميق-أعتقد أنه نوم هانئ مُطمئن- منذ سنوات طوال لم تجربه.

- حالة ثالثة: مجموعة نخبوية على "الواتساب" جعلتْ كلَّ اهتماماتها ما يحدث في الشأن المحلي تسمَّتْ بـ"صَوْت عُمان"، تضمُّ المجموعة نُخبة رائعة من أبناء وبنات الوطن، يجمعهم حُبُّ عُمان وقابوس، يطرحون قضايا جادة ومهمة لكل ما تتعرَّض له عُمان، ويصلون إلى نتائج إيجابية في كثير من الأحيان، رئيس المجموعة لروعته كان يُنهي النقاش الليلي بدعاء جميل ينضح بالصدق والمحبة والرجاء لكي يعود جلالته مكللا بالصحة والعافية، وعلى الخاص تساءل أحداهم عن جدوى هذه الأدعية التي لم تستجب، قلت له: وما أدراك أنها لم تُستجب؟! ألا تعرف أنَّ الدعاء وعمل البر خاصة بر الوالدين يطيل العمر؟! قال متعجبا: كيف ولكل أجل كتاب، والله سبحانه وتعالى يقول "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"؟! فمن كان عمره في الستين لن يتجاوز الستين!! قلت له: كُنا في مُحاضرة في الكلية، ذات يوم، وكان المتحدث هو العلامة الشيخ حسن الفارسي، وكان الحديث يدور حول أنَّ أعمال البر تطيل العمر، لكن أحد الطلاب اعترض مثلك ورد بنفس منطقك: "لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". ابتسم الشيخ، وقال: ومن منا يعرف متى تلك الساعة المحدَّدة في مشيئة الله؟! ومتى سيموت يا بني؟! إنَّ هذا الأجل سرٌّ من أسرار الخالق يُطيله يُقصره كيفما شاء، إلى أن تأتي المشيئة بأمر كُن فيكون وينتهي الأجل. ومن أدراك أنَّه قد طال عُمرك عدة مرات أو قصُر؟! قلت للزميل: علينا أن نعمِّق الدعاء لعلَّ دعاءنا يصادف رفة جناح سماوي لأحد الملائكة، فيرد آمين: اللهم استجب.

- حالة رابعة: مُقيم على أرض عُمان، من جالية عربية، كتب نصًّا، وقال أهذا شعرٌ؟! قلت: للأسف، لا. قال: أتمنى أن أكتب قصيدة في السلطان، إنني أعشقه، لكنَّني لستُ شاعرا للأسف، أنا بيدي مبضع الجراحة فقط، لأزيل الألم، لكن من يُزيل ألمي أنا الغريب الذي أتمنَّى أن أرى السلطان مُعَافى وأشعر بالأمان في وجوده؛ ذلك الأمان الذي افتقدته في بلادي الأم، وجدته هنا حتى تمنَّيت أن يقيض الله لنا قابوسا في كلِّ أرض عربية، ساعتها لن تُخذل الأمة في طموحاتها وآمالها.

كم أنتَ عظيم يا سيدي! وكم محبتكم راسخة في قلوب الجميع! والآن لا حُجة لك أيُّها القلم، فقد آن لك أن تتنفس عشقا وتنطلق.

تعليق عبر الفيس بوك