متتالية الإرهاب

جمال القيسي

تستند التنظيمات التكفيرية المتشددة -وفي مقدمتها "داعش"، الذي طوَّر كيانه فعليًّا إلى ما يُسمى بـ"تنظيم الدولة الإسلامية"- على حائط مكين من الفتاوى الفقهية الموغلة في العدائية، ونبذ الآخر، وعدم إمكانية التعايش معه على أي نحو كان؛ كما صار عود هذه التنظيمات يشتد معتمدا على وجود جيل جديد متطرف التأويل؛ فبالإضافة إلى تلقفه تلك الفتاوى الدموية، زاد عليها الكثير من منهج وسلوكيات الغلو والوحشية التي تفوق الخيال، مُعتبرا أنه بذلك يرعى الميراث بأمانة تاريخية تمنعه من الزوال، وتؤسس لبقائه أطول مدة زمنية مقبلة، ربما يراه هذا الجيل حقبة لا تنتهي إلا بتحقق الحلم الكبير بفتح بلاد السند والهند، وإخضاع أوروبا والولايات الأمريكية شمالية وجنوبية.

ولئن كان ابن تيمية المعروف تاريخيا بـ "شيخ الإسلام" (661-728هجرية) هو الإمام الأكبر الذي تصلِّي وراءه هذه المجاميع التكفيرية، مُستلهمة من أقواله، وأفعاله، وفتاواه، منهاجَ حياة دنيوي وأخروي، فإنَّ حَرْف الكثير من فتاوى ابن تيمية عن مقاصدها كان له الكثير من النتائج التي جاءت عدوانية ومُتوحشة أكثر أو على نحو مغاير -أحيانا- لما قصده "شيخ الإسلام" نفسه. ومن أمثلة ذلك؛ أنَّ الجيل الجديد في داعش أخذ قوالب الفتاوى العامة المتطرفة التي رآها الشيخ "صالحة" لذلك الزمن فقط، فقاموا بتمثلها والزيادة عليها، واعتبارها سارية على هذا الزمان أيضا، رغم تبدُّل الكثير من الأحوال والظروف، التي يُقر بها الكثير من الفقهاء المتشددين، ومن أهم تلك الأحكام ما يتعلق بتعريف "دار الحرب" وهي التي الأماكن الجغرافية والكيانات السياسية التي يحكمها "الكفرة" ويعيش في ظل مسلمون؛ فقد وقع الغلو أكثر مما كان يطرح ابن تيمية الذي كان متطرفا في حكم هؤلاء إلى حد ما؛ حيث اعتبر هذه الدار بين دار الحرب ودار السلم، لكنَّ الجيل الجديد المتطرف غالى في الأحكام وأخرج الشر من قمقم التعصب فتوسع في مفهوم المسلم من الكافر؛ فشمل التكفير ما يزيد على المليار مسلم، حيث يخرج من ملة الإسلام من لم يبايع خليفة داعش، وحكم من لم يبايع هو حكم الكافر بجواز ذبحه ونهبه وسبيه وأسره وحرقه حيا والتمثيل به.

ورَغْم رفضنا المطلق لنهج التطرف قلبا وقالبا، بالطبع، ورفضنا إمكانية الانصياع أو الرضوخ والاستراحة فيء فكرة أنه ثمة "تطرف أقل من تطرف"، إلا أنَّ النتائج المفروضة، اليوم، تؤكد أن بعض درجات التطرف كان من الممكن كبحها أو استصالها، لا بل وإمكانية التخطيط السليم لعمل طويل؛ لاستعادة عناصرها المفترضين عبر ثورات معرفية تربوية تؤثر في أجيال مقبلة.

... لقد تهاوتْ مكانة التفسيرات والتحليلات الكثيرة التي ظلت تنظّر لظروف وأسباب تحول الشباب المتطرف فكرا إلى مرحلة ترجمة هذا الفكر المشوه إلى سلوك دموي؛ حيث ارتطمت هذه التفسيرات بما لا يمكن تصديقه بولادة هذا المسخ على نحو مفصلي. وها نحن لا نحتاج إلى أية دراسات تحليلية عميقة، بعد أن فرض علينا داعش، بتفوقه على الأجيال السابقة من المتطرفين، أننا سنؤرخ اليوم بمرحلة ما قبل داعش (ق.د) ومرحلة ما بعد داعش (ب.د)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المعطيات كلها تؤكد أننا في مرحلة ما قبل داعش، إنما كنا نعيش "نعيم التطرف المعتدل". مع الاعتراف المخجل، بأننا سكتنا وتواطأنا بسكوتنا، على سطوع طبيعة تعاطي القوى العالمية والعربية المختلفة، مع ذلك النعيم؛ حيث لم ندرك فداحة نتائج الدعم الخفي والعلني، والاستخدام المبرمج لهذه المجاميع المتطرفة، وهو الدعم والاستخدام الذي أوقعنا في براثن ما نحن فيه.

ولربما القادم أخطر، بل على الأجح هو كذلك، حين نلفت إلى أن جيلا من "الجهاديين الأفغان" رفض في مطلع التسعينيات القبول بواقع انهيار الاتحاد السوفييتي، فاجترح منهاجا للدموية بعنوان عريض اسمه "تنظيم القاعدة" وهو الذي أنتج جماعة التوحيد وبيعة الإمام وجماعة جند الشام...وغيرها. ثم لم يقبل الجيل الذي تلا هؤلاء المؤسسين، بالدموية التي انتهجتها هذه التنظيمات، فأعلن داعش/ تنظيم الدولة/ البغدادي.

وهكذا هي متتالية الإرهاب التي يؤكد تاريخها القريب على تصاعدها الدموي الدراماتيكي؛ حيث تغذِّي شرايينها دول وطوائف وإرث كبير من الفقه المتطرف.

تعليق عبر الفيس بوك