حاتم الطائي
لَمْ تعُد الحُكومة في عالمِ اليَوْم المتحرِّك، ذلك الكائن الأسطوري القادر على تذليل جميع الصِّعاب، والنهوض بكافة المسؤوليَّات تجاه المجتمع، كما أنَّها لا تملكُ عصا سحريَّة لحلِّ المشكلات، وتوفير المتطلَّبات بَيْن يوم وليلة.
فقد أضحتْ التنمية في عالمِنَا المعَاصر مسؤوليَّة تضامنيَّة يقوم بها الجميع، وعندما نقول الجميع، فإنَّنا نقصدُ مُشاركة الكلِّ؛ بدءًا من الفردِ، مُرورا بالأسرة ومؤسَّسات القطاع الخاص، وليس انتهاءً بمنظَّمات المجتمع المدني.
... إنَّ التنمية ليستْ مسؤوليَّة الحكومة وَحْدها.. ولأنَّها تستهدفُ الجميعَ، فعلى مكوِّنات المجتمع بأسرها المشاركة في صُنْعِها، والتفاعل مع أهدافها.
وهذا ما يُجسِّد مفهومَ الشَّراكة المجتمعيَّة في التنمية؛ حيثُ للكلِّ دَوْر ومُهمَّة فيها، ضِمْن حلقات تكامليَّة يَدْعَم كلٌّ منها الآخر.
هذا هو المفهومُ الذي يَنْبَغي أنْ نكرِّس جُهودا لتوضيحه، ووَضْع الخطط والآليَّات التي تكفلُ تفعيْلَه فِي واقعنا التنموي. ولعلَّ المدخلَ السليمَ لإرساءِ أسسِ هذا المفهوم، هو تجاوز ما عَهِدناه من اتكاليَّة مُفرطة على الحكومة في كل شيء!
ويستلزمُ تنفيذ الشَّراكة المجتمعيَّة تبنِّي رُؤية واضحة تهدفُ إلى بَلورة هذا المفهوم كمنهجِ وأسلوبِ حياة لدينا.
ورَغْم يقيْننا بأنَّ الحكومة هي المحرِّك الرئيسي للتنمية -من مُنطلق مسؤوليَّة الارتقاء بالمواطن، وتقدُّم ورفعة الوطن- إلا أنَّ مبدأ الشَّراكة يُحتِّم على الفرد أنْ يقومَ بدَوْر فاعلٍ في تحقيق الأهدافِ التي تَضَعْها الخطط التنموية الحكوميَّة.
إذا؛ نحنُ أمام علاقة يشتركُ فيها أربعة أطراف؛ هي: الحكومة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمواطن المسؤول. وتضافُر هذه الأطراف معًا يضمن تحقيق الامتياز في العمل النهضوي.
... أقول: ولكي تُثمر الشَّراكة نتائج بنَّاءة، يجب أولاً: تحديد أهدافها وآليَّاتها بشكل واضح، وثانيًا: العمل على مزيدٍ من التمكين للأطراف الثلاثة الأخرى، وإتاحة الفرصة لها للمشاركة، خاصة القطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطن؛ عبر علاقة تكامليَّة مُتبادلة.
وعلى الرَّغم من أنَّ النهضة العُمانيَّة -مُنذ فجر انبثاقها في 23 يوليو 1970- عملتْ على الاهتمام بهذه المكونات الثلاثة والعناية بها، إلا أنَّنا نحتاجُ إلى مُراجعة هذه العلاقة الحيويَّة، والانتقال بها من طَوْر الرِّعاية إلى مَرْحلة الشَّراكة بما يكفلُ نُضْجَ المردودِ التنمويِّ، وتعاظُم العائد على جميع أطراف الشَّراكة.
وإذا كان القطاع الخاص العُماني قد نَمَا خلال العقود الأربعة الماضية عَبْر شراكته مع الحكومة، فإنَّنا اليوم بحاجة إلى مزيدٍ من التمكين لهذا القطاع الحيوي، والمراهنة عليه مُستقبلا لخَلْق الوظائف الجديدة.
ومن وَسَائل تمكين هذا القطاع: ما تقومُ به الحكومة، وما تقدِّمه من دَعْم لرواد الأعمال حاليًا؛ حيث إنَّ هذا الأمر هو ما سينعكسُ إيجابًا على دَوْر هذا القطاع في السنوات المقبلة.
إلا أنَّ طريقَ تعميق هذا القطاع ليأخذ دَوْرَ الشَّريك، لا تزال تكتنفه بعضُ الصِّعاب؛ منها: البيروقراطيَّة الحكوميَّة، وضَعْف الأداء في بَعْض الوزارات الخدميَّة ذات الصلة بأنشطة القطاع، وانتشار ثقافة التسويف والاتكاليَّة التي لا تُثمن عامل الوقت في إنجاز المعاملات؛ لدرجة أنَّ البَدْء في مشروع يتطلَّب عامًا من المراجعات للحُصول على التراخيص اللازمة.
وكلُّ هذه العوامل مُجتمعة تجعل بيئة الأعمال في حاجة إلى خُطوات إضافيَّة لجَعْلها أكثر جاذبيَّة، وتغري شباب الوطن بالالتحاق برَكْب ريادة الأعمال.
ويخطُر على ذِهْن المستثمرِ -الذي يُعاني الأمرِّين من ثِقَل بيروقراطيَّة الإجراءات والتصاريح- التساؤل المنطقي: لماذا لا تُدْغَم كلُّ هذه السلسلة الطويلة في إجراء واحد، وتُنجز في محطَّة واحدة؟!!! والتي أصحبتْ مطلبًا أساسيًّا لابد من الإسراع في تحقيقه؛ لتحفيز القطاع الخاص ليكون قادرا على الوفاء بمتطلبات الشَّراكة الحقيقيَّة.
وما أوردناه عن القطاع الخاص، يصِحُّ في جانب منه على المجتمع المدني، والذي يُمكن أنْ يكونَ أحد عناصر الشَّراكة الفاعِلَة فيما لو تهيَّأت له البيئة المواتية؛ من خلال تسهيل إنشاء وتقنين الجمعيَّات والنقابات والاتحادات، خاصة وأنها ترتكزُ على إرثٍ تليدٍ؛ حيث إنَّ مُجتمعنا التقليدي يحفلُ بأشكال مُختلفة من العمل التطوعي، والمسؤوليَّة المجتمعيَّة، وهما لبُّ العملِ في المجتمع المدني.
ولا شكَّ أنَّ قانون تنظيم الجمعيَّات الأهليَّة المنتظر سيُعطي دَفْعة قويَّة للمجتمع المدني ليقوم بدوره ومسؤوليَّاته كشريكٍ في العمل التنموي. كما أنَّ القانون سيكفُل مُعالجة الملاحظات المقترنة بالعمل التطوعي حاليًا، والذي يعتمد على حيويَّة الفرد؛ عِوَضا عن العمل المؤسسي المنظَّم الهادف، إضافة إلى خَلْق وَعْي بأهميَّة العمل في المجتمع المدني.. وهو ما سيُمكِّن هذا القطاع الحيوي لأن يكون إحدى الأذرع الرئيسيَّة في العمل التنموي.
... إنَّ الحديثَ عن العناصر الثلاثة السابقة، يُفضي بنا إلى المواطن؛ لأنه هو حجر الأساس. وعندما نقول مُواطن فإنَّ المقصود به المواطن المسؤول، الواعي بحقوقه وواجباته، والقادر على النُّهوض بدَوْره كشريكٍ في التنمية؛ فبقدر ما هو هَدَف للتنمية فهو صانعٌ لها، ولابد من تمكينه بالمهارات والوعي حتى يكون شريكًا، له إسهامه المقدَّر في تعظيم الاستفادة من المنجز التنموي، ويكون المحرك الرئيسي للإنجازات النهضويَّة.
ونخلصُ إلى أنَّ الشَّراكة المجتمعيَّة -بهذه الصورة- قادرة على بَلْوَرة نموذج رائد للتنمية المستدامة، وهذا ما ينبغي التركيزُ عليه كعُنوان للمرحلة المقبلة.