حتى لا يُخترق الأمن الفكري لأطفالنا وسط الفوضى السياسية

زينب الغريبيَّة

تُعتبر مرحلة الطفولة مسرح النمو الذهني والجسدي للطفل، وفيها تُوضع الأسس لتكوين الكثير من القيم والاتجاهات التي تساهم بالدور الكبير في بناء شخصية الفرد وتوجيهها للمسار الصحيح، وتشكيل السلوك الذي يظل مع الفرد طيلة سنوات حياته؛ حيث تشهد هذه المرحلة مرحلة التوقد الذهني للفرد لمحاولة اكتشاف العالم من حوله، والاندماج في البيئة التي يعيش فيها ويتكيف معها. وفي المقابل، أصبحت تربية الطفل على المواطنة ضرورة ماسة في جميع أنحاء العالم، وهناك اتفاق عالمي حول أهمية المواطنة الصالحة، وضرورة تربيتها في المدارس على اعتبار أنها المكان الأنسب لنمو المواطنة وإن تعددت مصادر التأثير في نموها.

لذا؛ أصبح الاهتمام بتربية المواطنة وغرس الانتماء للوطن في هذه المرحلة العمرية في ظل هذه التغيرات الحياتية والسياسية على النطاق المحيط أمرا ملحا؛ لما له من دور كبير في الحفاظ على هوية المجتمع الذي يعيش فيه الطفل، وينمِّي لديه مسؤولية التفكير في قضايا الوطن، والاهتمام بمشكلاته والمساهمة في محاولة حلها، وتربيته على المشاركة في صنع القرارات، والمساعدة في إجراء النشاطات الاجتماعية، والوطنية المختلفة التي تنمي لديه قيمة الانتماء الوطني، والتوازن بعدم الانكفاء على الذات، والابتعاد عن العالم المترابط والمتداخل، بل إكسابه المناعة ليصبح فرداً إيجابياً يندمج مع الآخر فيأخذ الصالح وينبذ الطالح من خلال التركيز على تربيته على المواطنة وأبعادها واتجاهاتها الإيجابية المتوازنة المرتكزة على تزويده بالمعارف والقيم والمبادئ والمهارات التي يستطيع بها التفاعل مع العالم والتطور بما حمل، دون أن يؤثر ذلك في شخصيته الوطنية.

... يعيش أطفالُنا اليوم أحداثا سياسية متلاحقة، ويشهد تطورات سريعة تعيشها الأمة العربية في السنوات الأخيرة من ثوران سياسي، ومناظر الحروب والبؤس التي آلت إليه المجتمعات العربية من حولهم، الأمر الذي يجعل عملية التغيير في التربية على جميع مستوياتها الأسرية والمدرسية المقصودة والإعلام والمسجد وغيرها من المؤسسات المعنية بهذا الشأن أمرًا لا مفر منه لإنقاذ فكر أطفالنا من دنس الهمجية السياسية، والتسرع في اتخاذ القرار لطلب حقوقه بالطرق الخاطئة، والتي لا تؤدي إلاّ إلى خسران الوجود والذات والوطن بما يحمله من أمن واستقرار ودفء.

ووسط كل هذا الواقع المقلق، فإنَّ غياب قيم المواطنة يؤدي إلى ضعف المسؤولية لدى الأفراد، وجهلهم بحقوقهم وواجباتهم؛ مما يخلق شعباً غير مكترث، لما يقدم له وما عليه القيام به من بناء وإصلاح للرقي بالوطن، ولذا فإن إهمال الأطفال مواطني اليوم والغد بعدم تدريبهم على السلوكيات والمهارات الصحيحة سيجعلهم جيل عبء على المجتمع، سيما في عصر كهذا العصر الذي يزداد فيه الانفتاح الثقافي بشكل جعل الحابل يختلط بالنابل لدى الأطفال إذا لم يتم توجيههم إلى الطريق الصحيح.

وعندها، علينا التفكير عند وضع المناهج للأطفال على الصعيدين العالمي والمحلي؛ باعتبار قيم المواطنة -ببعديها العالمي والمحلي- تنصب في مصلحة الدولة والعالم؛ كون الدولة جزءًا من العالم تتأثر بما يتأثر به من مشاكل البيئة، والعولمة، والفقر، والأمراض، والأوبئة، والقلقلة السياسية، ونتاج الحروب ومخلفاتها، والتي تتطلَّب إنسانا منتميا لوطنه أولا ثم للعالم، وهذا ما يتطلَّب تربيته منذ الصغر على مفاهيم المواطنة وحقوقه وواجباته وأولوياته وكيفية الحصول على حقوقه بالطرق السلمية الصحيحة الآمنة بتقديم مفاهيم المواطنة الصالحة واتجاهاتها وكيفية ممارستها، والتي تُعتبر حجرَ الأساس لمفاهيم ذات مستوى أعلى يتعلمها في المراحل العمرية المقبلة.

ولابد من أن نضع نُصب أعيننا ما يشهده العالم المعاصر من بث موجات فكرية تختلف في مضامينها وآلياتها، في بث التفرقة والعدوان عن طريق التفرقة المذهبية أو اللون أو المستويات الاجتماعية والقبلية والاقتصادية، وآلية التعامل معها، وما تحمله هذه المضامين من قنابل موقوتة لصنع الدمار الشامل وفقد الطمأنينة والأمان.

إضافة إلى سيادة بعض المفاهيم الحديثة على الساحة الفكرية، كالعولمة التي تشغل الكثيرين على اختلاف مستوياتهم -الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية- كونها تلعب دورا كبيرا في تشكيل العالم وفق سمات الثقافة العالمية لجعلها واقع من خلال سيادة الثقافة الغربية؛ مما أدَّى لتداخل كبير في مكونات الهوية، وإحساس الفرد بالانتماء والولاء لمكونات ثقافته الأصلية، من خلال أدوات العولمة المتمثلة في الشركات عابرة القارات، والأقمار الصناعية وما يرافقها من فضائيات وإنترنت...وغيرها.

وكمحاولة مُتواضعة منِّي قمتُ بدراسة استطلاعية لواقع تربية المواطنة في رياض الأطفال كجزء من دراسة لتعزيز المواطنة لدى أطفال رياض الأطفال بسلطنة عمان بتأليف وحدة مقترحة موجهة لرياض الأطفال، وكانت من ضمن نتائج الدراسة الاستطلاعية التي قمتَ بها لتكوين صورة مبدئية عامة فيما يتعلق بموضع تربية المواطنة في رياض الأطفال؛ حيث قمتُ بزيارة ست روضات: ثلاث منها في محافظة مسقط، وثلاث منها في محافظة ظفار، ورصدت الملاحظات التالية: ضعف مفاهيم المواطنة في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني القيمي لدى الأطفال، وعدم وعي المعلمات بمفاهيم المواطنة وطريقة تقديمها للأطفال؛ وبالتالي ضعف دعمهن لسلوكيات المواطنة الصحيحة، وعدم وجود منهج أو برامج مقصودة وموجهة لتنمية المواطنة لدى الأطفال، كما لا يوجد زيارات للأطفال لمؤسسات الدولة الرسمية لتنمية إدراكهم عن الدولة ودور مؤسساتها الرسمية في التنمية وخدمة الأفراد.

... حقا؛ ما يدور حول أطفالنا يسرِّب القلق إلى القائمين على التربية من خشية التأثير السلبي لهذه الفوضى السياسية، وما يمكن أن يحدثه من تغير في قيم المواطنة واتجاهاتها؛ لذا فلابد من تنامي الاهتمام بتربية المواطنة في مجتمعنا منذ رياض الأطفال، فتلك هي مرحلة الغرس، وتكوين الاتجاهات بالسبل المناسبة لتلك المرحلة العمرية، باللعب والحكاية والقصة القصيرة والفيلم الكرتوني والعمل اليدوي، والقراءة والرسم والتلوين...وغيرها من الطرق المتبعة في تعليم الأطفال حسب مرحلتهم العمرية من الطفولة.

وذلك لإكساب الطفل مفاهيم المواطنة المناسبة للعمر العقلي لأطفال رياض الأطفال، وما بعدها، والتي من المهم تعريف وتدريب الطفل عليها، كما لا بد من التأكيد على الدور التربوي والتعليمي لرياض الأطفال في تنمية مفاهيم المواطنة لدى الأطفال وإكسابهم حقائق ومهارات وقيمًا سلوكية مرغوبة، كمؤسسة تربوية مهمة تسهم في تنشئة الأطفال تنشئة سليمة وتساعدهم على تنمية علاقات تفاعلية إيجابية مع المحيط الخارجي. وعلينا أن نضع في اعتبارنا ضرورة الاهتمام بالمزيد من البحث العلمي والتربوي نحو احتياجات هذه المرحلة العمرية من تعزيز القيم وبناء الاتجاهات؛ بهدف الإسهام في تطويرها ورفع كفاءتها؛ تأكيدا على دور الأطفال المهم كمواطنين صغار، ثم بناة للوطن مستقبلا.

وعلى وزارة التربية والتعليم دَعْم الاتجاه الجديد في النظام التربوي العماني نحو إنشاء رياض أطفال حكومية (صفوف التهيئة) في مدارس الحلقة الأولى من نظام التعليم الأساسي؛ وبالتالي تصميم برامج خاصة مدروسة موجهة لهذه المرحلة للحفاظ على أجيال المستقبل وحمايتهم من سموم الأحداث المحيطة. ومن ناحية أخرى، على الأسرة الاهتمام بمعرفة مفاهيم المواطنة التي يمكن تنميتها عند أطفالهم وكيفية غرسها لديهم، وتشجيع أبنائهم على القراءة الحرة البناءة، والسعي لتعزيز قيم المواطنة الإيجابية، وكذا المؤسسات التربوية الأخرى من إعلام ومساجد...وغيرها.

لا يُمكننا تجاهل هذه الخطر المحدق بنا؛ فأطفالنا يعيشون في موجة من العراك النفسي القيمي، وسط الأحداث التي تبثها القنوات الفضائية...وغيرها، والأحاديث التي تدور حولهم من الكبار في نقاشات وتحليلات حول الأوضاع السياسية المحيطة؛ فعُمان أمانة تستحق منا الحفاظ على أمنها واستقرارها، وحبها الذي تربينا نحن عليه ويسري في دمنا، لا بد أن ننقله إلى دماء أبنائنا.

zainabalgharibi@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك