الحكمة ضالة المؤمن

د. محمد الشعشعي

لا تقاس إنجازات الدول بعدد السنين أو الدهور، وإنما تقاس بما تتركه هذه الإنجازات من أثر وبصمات في المجتمع الدولي والبشرية جمعاء، فكم من دول تسيدت واعتلت في زمن ما؛ لكنها سرعان ما اختفت من خارطة الموقف الدولي أو الساحة العالمية، ولم تتبق سوى معالمها الأثرية وأطلالها التاريخية وما خلدته من متاحف لمزارات توضح مجدها التليد؛ وبمعنى آخر نجد أنّ الحضارات التي امتد نفوذها في فترة ما من مشارق الأرض إلى مغاربها لم تعد اليوم سوى أطلال مدروسة ومعالم أثرية تتغنى بها هذه الدول في سجلها التاريخي الحافل، حيث أصبحت هذه المآثر مجرد معالم يقصدها القريب والبعيد. فحضارات بلاد الرافدين وبابل وأشور وأيضًا الفينيقيين والصينيين وأخطبوط الدولة العثمانية في فترة ما هي إلا خير شاهد على سالف القول.

قال الله تعالى: "غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ" هذه الحكمة الربانية التي نزلت عندما انتصر الفرس على الروم فأخبر سبحانه أنه بعد بضع سنين سنتصر الروم على الفرس، فالأيام دول يوم لك ويوم عليك فكم من قوة عظمى أو دولة كبرى وما تملكه من سلاح فتاك أو جيش ضخم إلا ويأتي وقت تتحول فيه قوة الدولة إلى ضعف بفعل العلم والتطور التقني الذي لحق ببعض الدول فأصبحت دول لها تأثيرها الدولي بعد أن كان لايذكرها أو يعرف اسمها أحد.

هذه سنة الحياة وتلك سباقات الزمن واختلافاته وتناقضاته وتداول أيامه، فكم من دولة آمنة هادئة مستقرة أصبحت في عشية وضحاها فتيل نار ودخان بركان، فتبدد الهدوء وانشرخ فيها الأمن وتدهور وضعها وغيّر الله حالها من حال إلى حال، فلن يغير الله قومًا حتى يغيروا ما بأنفسهم.

لأن هذه الدول دخلت إلى عالم الديمقراطية وتغنت على وتر مزايا الدول الجمهورية، وسخرت من الدول التي تتبع الأنظمة الملكية فلم تشعر إلا أن أدخلتها تلك الأفكار في مستنقع خطير، ووحل لم تتمكن من الخروج منه حتى الساعة؛ ومثال ذلك بعض الدول بعد أن بلغ متوسط دخل الفرد فيها ما يزيد على الثلاثين ألف دولار شهريا وبعد أن رفعت شعبها ونقلته نقلة نوعيّة في جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكنها لم تحمد النعم بالشكر والدعاء، هذه الدول هدرت ملياراتها وتدهور استقرارها وأمنها، ونخر الفقر عظام شعوبها بسبب جريانها وراء مسميات الديمقراطية البراقة، ناهيك عن تدخلها في شؤون الدول الأخرى دون أن تحسب الحسبة الفعّالة والناجحة في لعبة السياسة الدولية فكانت النتيجة الهبوط السريع لمكانة هذه الدولة.

لأنها استهدفت خيراتها ونهبت ثرواتها فانخفض مؤشر اقتصادها ولم يستمتع مواطنوها برغد عيشها أو نعيم ثرواتها.. أتدرون لماذا؟ لأنها لعبة السياسة أو بعنى آخر لأنها أدخلت نفسها في حلبة السياسة الدولية لإثبات الوجود ولكي تكون ضمن الدول الكبرى مثل فرنسا وأمريكا وبريطانيا والصين وغيرها؛ وحتى يشار إليها بالبنان بأن يكون ويصبح لها نفوذ وسمعة وشهرة عالمية أو إقيلمية، لهذا تلقفت في كل كبيرة وصغيرة وتدخلت في كل ما يمس الأمن والاستقرار في المنطقة، بل وصل بها الحال أن مولت الحروب ودعمت المعارضات والثورات وخصصت لها من مواردها موازنات لتشتري لتلك الثورات السلاح لضرب الأبرياء والآمنين في الدول الصديقة والشقيقة فسال الدم وهتك العرض وقتل البريء، إذ أنّ هذه الدول المتطلعة إلى الشهرة لم تحسب الحسبة تماما، فالحسبة دائما تختلف من دولة إلى أخرى والدول الكبرى المصنعة للسلاح هي المستقيد الأول والأخير من تلك الحروب، فتجرب مدى فعالية حديث سلاحها من ناحية وتشتغل على حروب مدمرة وقاتلة من ناحية أخرى، لأنّ الغرب عموما لاتهمه إلا المصالح بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني. وهذا بطبيعة الحال يختلف عن حسبة الدولة الصغيرة الدخيلة على المجتمع الدولي التي تحاول إثبات الذات والوجود أو ما يسمى بالأنا الدولية، وهذه الأنا لا اعتقد أنّها ستكون حاضرة في مجلس الأمن أو المجتمع الدولي.

نتيقن من هذا بأنّ الحكمة دائمًا ضالة المؤمن، وهي سيدة الموقف والسبيل إلى طريق الصواب، والدول تقاس مكانتها بمواقفها وحكمة سلطانها أو مليكها.. فالحكيم هو الذي يخطو بخطوات مدروسة، وقبل أن يضع قدمه على التراب يحسب لخطوته ألف حساب لأنه يملك من الحنكة ما يجعله يسير بمن معه في قطار آمن يحدوه التفاؤل المشرق، والمحبة والوئام، والعدل والصدق وإسعاد البشرية جمعاء.

تعليق عبر الفيس بوك