حذاء

أحمد الرَّحبي

كان مُجرد التلويح بحذائك يفسَّر مباشرة من قبل العصبة المناوئة لك في المدرسة، على أنه الفعل الحاسم، الذي يضع حدًّا لتصرفاتهم المعادية على الأقل في تلك اللحظة؛ فمجرد التلويح به في وجوههم يعكس مقدارا من العدوانية المعادلة لعدوانيتهم، وقد تفيض العدوانية بشكل قاس وعنيف بسلاح رشيق وخفيف كهذا، خاصة عندما تكون هناك نية مبيتة لسحق الخصم وإذلاله على الملء دونما أقل اهتمام بكرامته ومشاعره، هذا على نطاق مجتمع المدرسة. أما خارجها، فكان الحذاء سلاح للشيطنة؛ حيث يجري استخدامه للقيام بفعل مختلف عن الردع والحسم والإذلال؛ فكانت متعة استخدامه في ركل علب المرطبات في الأماكن العامة وهو استخدام (فعل) مزعج للمارة بما يثيره من ضوضاء صاخبة وغبار كثيف، أما بقر أكياس المرطبات (سنتوب) الورقية وفرقعتها تحت أحذيتنا، فتلك كانت متعة أخرى لا تضاهيها متعة في الطفولة.

وبعيدا عن عالم الطفولة، فإنَّ لهذا الحامل الصلب الذي يلحق بأجسادنا أينما ذهبنا ونتعايش معه معايشة يومية على الأقل ثلاث ساعات يوميا، جرى تحويله في كثير من المرات من وسيلة توفر الراحة لقدم الإنسان إلى أداة للاهانة والتهديد وحتى تصفية الحسابات، والتعبير عن المواقف السياسية؛ مثل الاستخدام الحاسم من قبل برجنيف لحذائه في إحدى أهم جلسات مجلس الأمن المنعقدة في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، ومثل قذف جورج بوش الابن، من قبل أحد الصحفيين العراقيين بحذاء في وجهه مباشرة، في بغداد؛ وذلك كنوع من تسجيل الموقف السياسي ضد زيارته للعراق، وقبل ذلك ضد ما جرَّه بوش من دمار على العراق كيانا وشعبا، وقبل ذلك بكثير تم استخدامه كأغرب وسائل الاغتيال السياسي وأكثرها إذلالا حيث -وكما ورد في الروايات التاريخية- إنَّ أم علي زوجة عز الدين أيبك ضُرَّة شجرة الدر قد أمرت جواريها بضرب الأخيرة حتى الموت بالقباقب انتقاما منها لمقتل أيبك؛ فلقيت حتفها بطريقة مهينة لم يعادلها إهانة في التاريخ.

وقد ارتبط الحذاء بالمرأة فكان وسيلة للتدليل على أناقتها وثرائها فقد اشتهرت أيميلدا ماركوس بولعها المرضي بالأحذية لدرجة أنَّه تم العثور على 3000 زوجٍ من الأحذية في دولابها بالقصر الجمهوري بعد خلع زوجها من الرئاسة في الفلبين.

وكان والد العروس في العصر الأنجلوساكسوني، يقدم لعريس ابنته في حفل الزفاف فردة حذاء ابنته للدلالة على انتقال السلطة إليه.

كما ارتبط أجمل الأحذية وأكثرها سحراً بقصة سندريلا؛ ذلك الحذاء البلوري الساحر الذي قاد سندريلا في حفلة ساهرة، إلى حلمها بالزواج من الأمير والتخلص من قهر زوجة أبيها.

أما في السينما، فارتبط شكل الحذاء بمدى تحرُّر المرأة وخطورتها كأنثى تجيد فنون الغواية والإغراء خاصة مع ظهور شخصية المرأة الفتاكة أو الغاوية في العشرينيات من القرن الماضي، التي تعبر عن الخوف من المرأة المتحررة والتي أصبح الكعب العالي رمزاً لها في السينما.

وفي علم النفس، اعتبر سيجموند فرويد في مقاله "الرموز في الأحلام" الحذاء رمزاً للعضو الجنسي. أما في السينما، فلا يُمكن تخيل فيلم بوليسي تشويقي بدون اللقطات المكبرة لحذاء القاتل وهو يقترب من ضحيته تحت جنح الظلام.

ومن السينما إلى الميثيلوجيا (الأسطورة)؛ حيث يرمز الحذاء إلى الشخصية والروح في المعتقدات البدائية لدى بعض الشعوب فكان يعتقد بأن الشخص الذي تخرج روحه يمكنه استعادة روح جديدة بالقبض على روح شخص ما ووضعها في حذائه ثم ارتداء هذا الحذاء، ويبقى للحذاء كونه الحامل وليس المحمول، فلسفته العميقة في دروب الحياة، فهو يرسم رواشم خطواتنا ويمهرها على منبسط الغبار كأثر خارطة طريق طويل وممتد في الحياة، لخطى كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها.

تعليق عبر الفيس بوك