حاتم الطائي
تكللت المُباحثات الماراثونية بين إيران والدول الستة الكبرى عن اتفاق إطارٍ يُؤسس لاتِّفاق نهائي حول البرنامج النووي الإيراني بنهاية يونيو المُقبل..
أُسدل الستار على هذه المرحلة من المفاوضات التي تُعد من أطول المُباحثات في التاريخ السياسي الحديث حيث تجاوزت العشر سنوات، وتقلبت في أطوارها بين السرية والعلنية، والمد والجزر، والكر والفر، والرفع والاستئناف وبصورة غير مسبوقة في مسارات التفاوض الدولي..
ورغم أنّ تنفيذ الاتِّفاق مرهون بتكامل العديد من الظروف، وتحقُق العديد من الاشتراطات، إلا أنّه يعد انتصارًا لإرادة السلام، واختراقًا نوعيًا للمواقف الغربية المُتشدِّدة التي طالما قرعت طبول الحرب، وروجت إلى أنّ حل الملف النووي الإيراني يمر عبر فوهة البندقية بإيعاز من إسرائيل الخاسر الأكبر من امتلاك إيران التقنية النووية..
وكلٌ من تابع مسيرات الفرح التي انتظمت الشارع الإيراني بهذا الاتِّفاق، والاحتفاء الكبير بالمفاوضين الإيرانيين لحظة وصولهم طهران، يشعُر بالرغبة الإيرانية الشعبية العارمة في السلام، ويُدرك توق الشعب الإيراني الشديد للخروج من دائرة حصار ظالمة امتدت زُهاء اثني عشر عامًا، ذاق خلالها الأمرين، لكنِّه صمد اتكاءً على إرادته الصلبة التي أبت أن تتراجع رغم ضراوة الضغوطات الغربية..
وبموازاة الفرح الطاغي في الشارع الإيراني، اكتأبت شوارع تل أبيب،
وأظلمت سراديب المحافظين ممن يُسوِّقون للحرب، ويُريدون أن تسود لغة السلاح..
وفرحة الإنجاز، ينبغي أن تكون أشمل من أن يسعها الداخل الإيراني، باعتبار أنّ المُنجز يصب في خانة خدمة الاستقرار الإقليمي والسلم العالمي، ولا شك أنّ أية نظرة تُجرد الاتِّفاق من هذا البُعد، هي نظرة قاصرة، ولا يرى أصحابها أبعد من مواطئ أقدامهم..
وفي غمرة الزخم الإعلامي بميلاد اتفاق الإطار، ينبغي ألا ننسى دور الدبلوماسية العُمانية في التوصل إلى هذا الاتِّفاق..
ولقد بذلت الدبلوماسية العمانية الكثير من الجهود للتقريب بين وجهات النظر الإيرانية والغربية، انطلاقًا من حرص السلطنة على السلام في المنطقة التي طالما اكتوت بويلات الحروب ودمارها البشع.. وباعتبار أنّ السلام مبدأ أصيل من مبادئ الدبلوماسية العمانية، وقد زار حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس في أغسطس 2013م، الجمهورية الإسلامية الإيرانية داعمًا للجهود الدبلوماسية من أجل تقريب وجهات النظر بين الطرفين.. وتعكس هذه الزيارة الاهتمام السامي بأمن واستقرار المنطقة، والحرص على صون السلم العالمي، والذي كانت تتهدده التوترات بين الدول الغربية وإيران..
نعم .. انتصرت هذه المرة إرادة السلام لتُجنب المنطقة كوارث مُحققة، كما قال معالي يوسف بن علوي بن عبد الله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية عشية الخميس الفائت..
وكما صرَّح السيِّد بدر بن حمد الأمين العام لوزارة الخارجية في تغريدة له قائلاً: "إنّ الاتِّفاق الدولي بين إيران ومجموعة 5+1 يعد إنجازًا للمجتمع الدولي وانتصارًا للسلام ودبلوماسية السلام".
حقًا.. لنا أن نفخر بالدبلوماسية العمانية التي استطاعت عبر عملٍ حثيثٍ، وجهد مُخلص تقريب وجهات النظر، في ظروف صعبة وبالغة التعقيد، خاصة في ظل انعدام الثقة بين الطرفين لما يقارب 30 عامًا..
وسيُسجل التاريخ أنّ جولة مسقط من مباحثات الملف النووي، كانت إحدى المحطات الناجحة في مسار المفاوضات الطويلة، ونجحت في إذابة الكثير من الجليد، ولعبت دورًا في تمهيد الطريق للتوصل إلى تفاهمات بشأن القضايا العالقة..
وما كان هذا ليتحقق لولا المكانة المرموقة للقيادة العُمانية، والمنزلة الرفيعة التي تتمتع بها، والثقة العالية التي تحظى بها من جميع الأطراف ذات العلاقة بهذا الملف الشائك..
كانت السلطنة تتدخل كلما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، على مدى سنوات التفاوض الطويلة، لتعاود دور الوساطة والمساعي الحميدة للتوصل إلى حلول وسط يلتقي عندها الطرفان، أو اتخاذها كقاعدة انطلاق لجولة جديدة من المفاوضات..
هذا الدور العُماني فيما يتعلَّق بالملف النووي الإيراني، كان محل تقدير أطراف التفاوض، بل والأُسرة الدولية جمعاء باعتبار أنّ التحرك العُماني يُعبِّر عن تطلعات كل الشعوب المُحِبة للسلام والاستقرار..
ورغم أنّ الاتِّفاق يقضي بمنع إيران من إنتاج قنبلة نووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية، إلا أنه يعترف بأحقيتها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وقد يقول قائل إنّ إيران قدمت تنازلاً عن طموحها النووي العسكري إلا أنّه "رب ضارة نافعة" فالتنازل عن الاستخدام العسكري للتقنية النووية سيفتح المجال واسعًا لإيران للتقدَّم في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية لبناء اقتصادها خاصة بعد رفع العقوبات والسماح لها باستخدام أرصدتها المجمدة والتي تقدر بعشرات المليارات.. وهذا يدل على أنّ القيادة الإيرانية أدركت أنّ خيار الاستخدام السلمي للطاقة النووية هو الطريق إلى المستقبل حيث تتسابق الدول نحو التفوق المدني والحضاري كما فعلت دول إسلامية مثل ماليزيا وتركيا..
تجاوزت طهران النظرة الضيقة التي فُرضت عليها ووقعت في فخها منذ الحرب العراقية الإيرانية بالعسكرة والتفوق العسكري، لتُستنزف مواردها طويلاً في سباق للتسلح على حساب التنمية.. إنّ إيران تُفوِّت الفُرصة على أعدائها مثل إسرائيل بعدم الانخراط في لعبة تُستْدرج لها على مدى سنوات لتُستنزف قدراتها ومواردها.
كما أنّ معايير القوة والتفوق لم تعد ترتبط بالقوة العسكرية، بل هناك معايير أخرى يجب الاعتناء بها من أجل المنافسة في السباق الحضاري.. وإنّ خيار السلام هو طريق الشجعان ممن يضعون مصلحة شعوبهم أولاً، ويفوتون الفرصة على أعدائهم..
والمأمول أن ينعكس هذا الاتِّفاق على تعزيز أجواء الثقة بالمنطقة وإبعاد شبح التوترات، الأمر الذي تنجم عنه العديد من فرص الشراكات الاقتصادية الواعدة بين إيران ودول المنطقة بما يطوي فصولاً من التوتر، ويشرع الأبواب لتعاون بنَّاء يصب في مصلحة الشعوب.