النفيسي والهوس الأيديولوجي

صالح البلوشي

عندما اتصل بي أحد الأصدقاء مساء يوم الإثنين الماضي ينصحني بمتابعة الحوار الذي كانت تجريه قناة الجزيرة مع الدكتور عبد الله النفيسي في برنامج "حوار في العمق"، قلت له بأنّه لا داعِي لمتابعة الحوار، لأنّي أعلم تمامًا ما يقوله الرجل من آراء وأفكار. فالنفيسي الذي كان إخوانيا حتى ثمانينيات القرن المنصرم، تحول بعد ذلك إلى ناقد لفكر الحركات الإسلاميّة، وقرأت له عدة كتب ومقالات في هذا الموضوع منها كتاب "الفكر الحركي للحركات الإسلامية"؛ الذي تناول فيه بالنقد والتحليل فكر حزب الإخوان، وحزب التحرير، وحزب الدعوة الإسلامية العراقي. ولكن فكر الرجل شهد تغييرًا كبيرًا بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 وأصبح أقرب إلى التنظير لفكر القاعدة، وقد وصف في عدة لقاءات تلفزيونية هذا التنظيم الإرهابي بأنّه يخوض حربًا حضارية ضد الهيمنة الأمريكية في العالم الإسلامي. وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 أصبح النفيسي أحد أبرز الأصوات التي تروّج للطائفية في العالم العربي، وقد أصبح منذ سنوات أيضًا ضيفًا دائمًا في القنوات الطائفية أمثال "وصال" و"صفا" وغيرها.

بعد متابعتي لبعض أصداء اللقاء في موقع البرنامج الاجتماعي "تويتر" وخاصة اقتراحه بتشكيل تحالف عربي إسلامي تكون مصر أحد أعضائه، قررت مشاهدة البرنامج في موقع "يوتيوب" لمعرفة موقفه الجديد من مصر بعد أن كان من المنتقدين لها بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في يوليو عام 2013.

لم ُيخفِ النفيسي الذي - يقيم حاليًا في تركيا- في بداية اللقاء فرحته بعملية "عاصفة الحزم" على الحوثيين والقوى المتحالفة معهم في اليمن، ووصفها بـ "المباركة"، وحاول - كعادته- أن يعطي بعدًا أيديولوجيًا طائفيًا لطبيعة هذه الضربات، حيث ادعى بأنّها انتشلت أهل الخليج من حالة الإحباط التي كانوا يعيشون فيها إلى حالة الأمل، ولا أدري من الذي فَوّضَ هذا الرجل للتعبير عن مشاعر أهل الخليج حول الضربات المذكورة، فهناك من يؤيد هذه العملية العسكرية ويقف معها، ولكن ليس حسب منطق النفيسي الأيديولوجي؛ وإنّما لاعتبارات سياسية واستراتيجية لا علاقة لها بالطائفية، فللسعودية مصالحها الإستراتيجية في منع انزلاق الأوضاع السياسية والعسكرية في اليمن إلى الفوضى، وهي لم تلجأ إلى الخيار العسكري إلا بعد فشل المفاوضات السياسيّة بين الفرقاء في اليمن، ووصول الحوثيين والمتحالفين معهم من الموالين للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح إلى عدن، ومحاولتهم السيطرة عليها بقوة السلاح، والإطاحة بالحكومة الشرعيّة هناك، رغم التحذيرات الخليجية المتكررة. وإذا كان النفيسي يعتقد حسب المنطق الأيديولوجي الذي يعيش فيه منذ سنوات طويلة إن الحرب تستهدف الحوثيين كتيار ينتمي إلى الطائفة الزيدية، أو بسبب "ارتباطها العقدي والسياسي" مع إيران، فإنّ منطق أهل السياسة في الخليج لا يؤمن بذلك، بل أجزم أنّه منطق يتبرأ منه ومن يدعو إليه، بدليل مشاركة السعودية ودول خليجيّة أخرى في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بالإضافة إلى موقف هذه الدول من جماعات إسلاميّة "سنية" أخرى مثل جماعة الإخوان المسلمين وغيرها. وكان على النفيسي أن يحدثنا عن طبيعة الأمل التي يعيش فيه - حسب ادعائه- أهل الخليج وهم يرون دولة شقيقة وجارة تحترق وتستهدف بنيتها التحتية بالتدمير، ولكن يبدو إنّ النفيسي كان يتحدث عن حالته فقط التي تتوافق مع هواه الأيديولوجي.

ومما قاله النفيسي في اللقاء المذكور مطالبته بتشكيل تحالف بين مصر ودول الخليج وتركيا من أجل التصدي لما أسماه بالنفوذ الإيراني في العالم العربي، ويبدو أنّ النفيسي نسى هجومه على الحكومة المصرية في فبراير الماضي في برنامج "حراك"، الذي يذاع في قناة فور شباب السعودية، ووصف فيه مصر في ظل النظام الحالي برئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسي بأنّه: (حليف غير مجد)، وأنّ من مصلحة دول الخليج التحالف مع تركيا، وطالب النفيسي بضرورة اتخاذ خطوات تجاه النظام بمصر بوقف الدعم أولا، ثم تشكيل خلية أزمة، مؤكدًا أنّ جيش مصر لم ولن يتفكك إلا بإقحامه في السياسة حسب تعبيره، وانتقد فيه أيضًا المساعدات الخليجية لهذا البلد، وقال: إنّ مشاريع الإسكان الموجهة لشعوب الخليج أولى بهذه المليارات، خاصة وأنّ الشعب المصري لم يحصل منها على شيء، ولا يزال جائعًا، بينما لا يعرف أحد أين أنفق العسكر في مصر الأموال التي ذهبت إليهم". ولا أدرى ما الذي تغيّر في مصر اليوم حتى يتناسى النفيسي الخلاف معها، ويطالب بضمها إلى التحالف الذي اقترح تشكيله. ولكن من يعرف النفيسي لا يستغرب من ذلك، فالرجل لا يكف عن العيش في التناقضات، ومن يدري فقد يعترف غدًا بالنظام المصري الحالي بعد أن كان يرفض ذلك ويصفه بالنظام الانقلابي.

قد وصف النفيسي الصراع في اليمن في اللقاء المذكور بأنّه ليس مع الحوثيين كجماعة مسلحة تطمح للوصول إلى السلطة، وإنّما مع إيران. وهذه دعوى خطيرة كان المفترض على النفيسي تقديم الأدلة عليها. فمن يهاجم اليوم اليمن بدعوى وجود أدلة على تدخل إيراني فيها، قد يهاجم غدًا دولة أخرى بدعوى وجود تدخل من دولة أخرى أيضًا. ومن يدين التدخل الإيراني في اليمن عليه أيضًا أن يدين التدخلات الأخرى في سورية، وليبيا، واليمن أيضًا. إلا إذا كانت التدخلات التركيّة - مثلا- حلالا والإيرانية حراما. ولا أدري لماذا لا يطالب النفيسي الدول العربية بتشكيل تحالف لقصف الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، فهي لا تعاني من وجود تدخل أجنبي فيها فقط؛ وإنما تعاني منذ أكثر من ستين عامًا من احتلال استيطاني إسرائيلي يهدد وجودها وهويّتها العربية والإسلاميّة، ولكن يبدو أنّ مشكلة النفيسي وغيره من الغارقين في الهوس الأيديولوجي ليست مع إسرائيل، وإنّما مع طائفة واحدة من المسلمين.

إنّ التعامل مع الأزمات السياسيّة الساخنة بروح أيديولوجية أو طائفية، لا يساهم في حلها، وإنّما يزيدها اشتعالا، ويجعلها تمتد إلى مناطق جغرافيّة أخرى لا علاقة لها بالنزاع.

Omansur5@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك