التاريخ ... لا تصنعه براميل النفط

علي بن مسعود المعشني

يرافق المشهد اليمني اليوم وتطوراته نحو الفصل الدموي، جملة من التساؤلات حول مستقبل اليمن ومستقبل المنطقة كذلك، بحكم التداعيات وسنن التطور وسيرورة الحياة.

فالدول كما يصفها ويصنفها علماء الاجتماع السياسي، على أنّها كيانات شبيهة بالبشر، في مراحل التطور والنشأة والنمو، من طفولة ومراهقة وشباب ثم شيخوخة فزوال. لهذا فحين نستعرض التاريخ ونسيح في أيامه، نجد الآثار والسير هنا وهناك، كدلالات ورمزيات ومآثر وعبر، عن الأقوام التي سادت قبلنا ثم بادت امتثالًا لسنن الحياة ونواميس التاريخ وأعراض الضعف والقوة.

كما أنّ القوانين المعاصرة صنفت الدولة، على أنها شخصية اعتبارية، أي عكس الشخصية الطبيعية المألوفة بحواسها وهيئتها، وتتشكل تلك الشخصية الاعتبارية من مكونات طبيعية شاخصة للعيان، تتمثل في شعب وسلطات وأرض معلومة ومحددة في جغرافية بعينها، من هنا تستمد الشخصية الاعتبارية كل مظاهرها وصفاتها من الشخصية الطبيعية التي تقودها.

لهذا فمن الطبيعي، وكلما سمت نفوس البشر وارتقت عقولهم وأخلاقهم، أن تسمو معهم الدولة وترتقي، وتتجدد وتنمو، وتتصالح مع التاريخ، وتشكل جزءًا مصيريًا ناصعًا منه، وتفرض نفسها عليه، لتعبر الأجيال والحدود بصيتها ورسالتها والعكس صحيح.

هكذا كانت عُمان، ومازالت وستبقى، فكل حقبة من حقب تاريخها، يأتي جيل من أبنائها البررة، ليضيفوا رصيد مجد وفخر وصيت لها. لهذا يُسطر العُمانيون التاريخ ويصنعونه في كل حين. فصناعة التاريخ ليست حرفة العاطلين ولا المتطفلين ولا الباحثين عن تاريخ، بل صناعة متوارثة عند من ساهم في التاريخ فأصبح شريكًا لازبًا به.

السلطنة اليوم، وفي عهد بانيها وباعث أمجادها السُلطان قابوس المفدى - حفظه الله ورعاه - تصنع فصلًا جديدًا من فصول التاريخ ونسيجه، فصلًا متناغمًا إلى حد الانصهار في أمجاد الماضي التليد، يليق بلغة العصر، ويصنع المستقبل.

فمنذ فجر النهضة المباركة، وعُمان تصنع التاريخ، وغيرها منهمك في صناعة الأحداث، فالأحداث قصص من التاريخ، والتاريخ مجمل أمجاد وعبر. ونحن في السلطنة، تؤرقنا كثيرًا كيفية انتقاء تلك القصص والأحداث وتقرر مواقفنا، بما ينسجم ويتناغم مع المجد والصيت، ويعزز من إضاءات تاريخنا ورصيدنا في إسهامات الحضارة البشرية بوجهها المشرق الناصع.

لهذا لا نكترث أن نوصف بأننا خارج السرب أو الإجماع في مواقفنا، لأن السرب والإجماع في موروثنا وقناعتنا التاريخية، يخضع لشروط وقواعد خاصة بنا ولا نستشير بها أحدا. فمن يعمل للتاريخ، سيختلف بلا شك عن من يعمل لكسب تاريخ يومه.

تاريخنا زاد حكمة وبصيرة لا نستطيع التخلي عنه، ما لم نُضف عليه مجدًا وبصيرة وحكمة، فهذا ما يؤرقنا ويجبرنا أن نظهر وكأننا خارج السرب، ونحن في حقيقتنا خارج المراهقة التاريخية والتطفل على التاريخ. فالاستثناء والتفرد العُماني، علامة تاريخية مُسجلة لانحيد عنها ولا نتنازل عنها كذلك.

من لم يقرأ التاريخ، أو يصنعه، ومن يعاني من اهتراء في ذاكرته، يعيدون ذات الأسطوانة اليوم في وصف وتصنيف موقفنا من الأزمة في اليمن، ويتساءلون لماذا لم تُشارك السلطنة في الاعتداء المسلح على اليمن "لإصلاح ذات البين" !!؟.

والجواب إذا كنَّا نردد عبارة: من سلم من سيوفنا فليسلم من ألسنتنا، في وصف أحداث جرت في غابر الأيام، فهل يتوقعون منِّا، أن نرفع سيوفنا ونريق دماء أشقاء لنا اليوم، طالما ألسنتنا قادرة على إصلاح أوضاعهم !!؟.

حين استعنا بقوات صديقة وشقيقة في مطلع السبعينيات قيل لنا وعنَّا يغردون خارج السرب، وانقضى الأمر واستتبت الأمور، ثم قيل لنا ذات الجملة حين تحفظنا على عضوية مصر في الجامعة العربية، ثم عادوا مسرعين لاحتضان مصر، وقيل لنا ذلك في وصف موقفنا الحيادي في الحرب العراقية الإيرانية، فأصبحنا بفضل ذلك عنصر القبول والوساطة لإنهاء الحرب من طرفي الصراع، وقيل عنَّا ذلك في حرب تحرير الكويت، وأخرجنا المنطقة من كوارث وتداعيات حقيقية من ذلك الزلزال، ثم قيل لنا ذلك في موقفنا من الجارة إيران، فنزعنا فتيل مواجهة لن تبقي ولن تذر في حال قيامها بين إيران والغرب، ثم أتى موقفنا في فصول الربيع، وصولًا إلى أزمة اليمن اليوم.

لاشك أنّ من عاش أزمنة صدر الدعوة والإسلام قالوا ذات الكلام عن عُمان وأهلها حين قبلوا الإسلام بلا حرب، وحين تمسكوا بالإسلام في زمن الردة.

الخلاصة، أننا نمتلك من الرصيد التاريخي ما يُحصننا من الانزلاقات وأعراض الطيش والمراهقة، ومن الحكمة والزاد العقلي ما يُبصرنا بمصالحنا ويُحسن واقعنا وعواقبنا، لهذا سنستمر في التغريد خارج سرب المراهقة والقمار السياسي، حتى يرشُد المقامرون ويُخرج الله من أصلابهم من يقرأ التاريخ ويتعظ منه وبه. فعقيدتنا وقرارانا الشرعي والتاريخي والأخلاقي هو أن كل بريء سيسلم من سيوفنا وألسنتنا إلى يوم يُبعثون. فالتاريخ لا تصنعه براميل النفط وقناطير المال، بل المواقف والأخلاق والقيم، فالأولى حالة زائلة وناضبة والثانية لا تزول بزوال الرجال والأوطان، والحياة البشرية لم تتطور إلا عبر المغردون خارج السرب.

قبل اللقاء: يقول البعض اليوم: إن إيران وأمريكا وجهان لعملة واحدة، ولكنهم لا يفسرون لنا لماذا يقفون مع وجه ويعادون الآخر!؟.

ختامًا: من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك