د. سيف بن ناصر المعمري
المواطنة المسؤولة هذه القيمة الرفيعة في حياة المجتمعات المعاصرة، تعتبر الغاية الرئيسية لمؤسسات التنشئة الإنسانية وفي مقدمتها المدرسة والكليات والجامعات، هي غاية قبل كل غاية لأنّه لا شيء يضمن للوطن حقه إلا إذا تمكنت هذه القيمة في عقول المواطنين قبل قلوبهم، وما يُميز المجتمعات المعاصرة اليوم هو درجة المواطنة المسؤولة التي يحملها المواطنون، وفق درجتها تزيد احتمالات الاستقرار، والإخلاص والعمل والتفاني أو تقل، وبالتالي المهمة الأولى لمؤسسات التعليم هي زرع الوطن في القلب، ومن ثمّ تعليم العقل كيف يُترجم هذه المشاعر الصادقة إلى عمل صادق يرقى بالوطن وبمقوماته، ولكن كثيرًا من المجتمعات تعاني من أزمة في تعليم المواطنة مما نتج عنه خلل كبير داخل المدرسة نفسها، وداخل الجامعة والكلية قبل أن يكون في المجتمع الخارجي، ولقد كان فهم المواطنة قاصرا على أنّها مادة دراسية تتضمن في كثير من الأحيان دروسًا سطحية غير مترابطة عمّا يجب أن يعرف المواطن في المجتمع الحديث القائم على المؤسسات والقوانين والمشاركة الفعلية، ومن ثم لا غرابة إن ظلنا غير قادرين على بلوغ الغاية خلال السنوات الماضية، حيث لم تحظ المواطنة إلا باهتمام ضعيف جدًا من قبل المؤسسات المعنية، ولذا لم توجد إلا اجتهادات فردية من باحثين مستقلين سعوا إلى بناء وعي بهذه القيمة المُهمة، وبسبل وآليات تعزيزها تربوياً، ولكن حمدًا لله على سلامة مولانا السلطان المعظم، وشكرًا له على إعادة درس المواطنة المنسي خلال الأيام الماضية.
إنّ الأيام الماضية شهدت عودة الدرس الأهم في البلد بشكل عام، وفي المدارس بشكل خاص، ألا وهو درس المواطنة، هذا الدرس الذي كان جميع الطلبة في أنحاء عمان يحتاجونه من أجل تعزيز انتمائهم الوطني ..وتقديرهم لرمز هذا البلد، لأنّ هذا الانتماء لا يمكن أن ينشأ صدفة بدون درس مشوق.. يثير الدافعية الوطنية، ويقدم فرصًا تطبيقية، وممارسات عملية، ويجعل المؤسسات التعليمية متفاعلة مع المجتمع ومنفتحة عليه، مما يساعد على ترسيخ قيمة هذه الممارسات، ويوفر فرصًا لانتقال سلوكيات نتيجة هذه التفاعلات بين الأجيال المختلفة، ويجدد الفخر الوطني في أنفس الطلبة، ويشعرهم بالمسؤولية الكبيرة، وهذا ما عايشناه منذ عودة مولانا السلطان المعظم حيث بدأ تطبيق درس مختلف للمواطنة لا يمكن أن تمحى آثاره من ذاكرة الطلبة، لأنّه بُني على تطبيق عملي بدلاً من أن يركز على جانب نظري فقط، فالمواطنة في أبسط معانيها هي أن تحول المشاعر الوطنية إلى نقش لا يمحى من أرض الوطن، أو هي بصمة تفتح باب الرخاء الوطني، فكم باب للرخاء يمكن أن نفتحه لو نفذت دروس للمواطنة بالطريقة التي نفذت خلال الأسبوع الماضي.
شهد الأسبوع الماضي عودة درس المواطنة الضائع، فالدرس العميق الذي عايشه كثير من الأجداد والآباء بصورة واقعية، من خلال المعلم الأول مولانا صاحب الجلالة الذي كان متواجدًا في كل مكان يتابع بناء الدولة بصبر وإخلاص حتى وصلت إلى ما وصلت إليه بعد هذه العقود الأربعة، ربما لم يتح للطلبة الحاليين الذين لم توفر لهم فرص حقيقية للممارسة الحقيقية للمواطنة، ما يحصلون عليه مجرد معلومات تاريخية وجغرافية عن وطنهم، وقد أكد المشتغلون بتربية المواطنة الفرق الكبير بين التعلم عن المواطنة، وبين التعلم من أجل المواطنة، فالاتجاه الأول تلقيني بينما يركز الاتجاه الثاني على الجانب العملي السلوكي الذي يرسخ الانتماء داخل الطالب من خلال القيام بأنشطة فعلية داخل المدرسة وخارجها تعزز من شعوره بعظمة وطنه، وتحفزه لمضاعفة العمل من أجله، وبالتالي يؤدي التعلم من أجل المواطنة إلى حل كثير من الإشكاليات التي تعاني منها المدارس ومنها المشكلة الأزلية وهي ضعف تحية الطلبة لعلم بلادهم في بداية كل صباح، والذي يتضمن تذكير الطلبة بقيمة جوهرية للمواطنة وهي الوفاء والذي يمتد من الوفاء للقائد الباني، وأيضًا الوفاء للوطن، هذا الوفاء لا ينشأ صدفة إنما يحتاج إلى دروس نوعية فيها احترافية كبيرة من أجل تعزيزه داخل الطلبة، لأنّ نجاح المؤسسات التعليمية في تعزيز قيمة الوفاء في أنفس هؤلاء المواطنين يكفل للوطن سلامته واستقراره، واطراد تنميته في ظل التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة والعالم، والتي يقف فيها "المواطنون الأوفياء" صمام أمان لكل وطن، وعامل قوة لأيّ نهضة، وحاجز منيع ضد أي محاولة للنيل من وحدة الوطن.
إنّ تعليم المواطنة بشكل فعّال له متطلبات لابد من الوفاء بها بغض النظر عن التكلفة والوقت والجهد الذي تطلبه، ومن هذه المتطلبات جعل المواطنة غاية أساسية تتطلب ترجمة فعلية خلال السنة الدراسية، كما أنها تتطلب أيضًا انفتاح المؤسسات التعليمية على المجتمع، واندفاع المجتمع لمشاركة المدرسة من خلال تنفيذ عمل وطني مشترك بين المؤسسات التعليمية والمجتمع بمختلف مؤسساته، كما أن الأمر يتطلب تواجد المسؤولين في المؤسسات التعليمية يتحدثون للطلبة عن الدور المتوقع منهم في بناء الوطن، ويعززون الثقة في داخلهم، ويحدثونهم بكل صراحة عن القيم التي بنيت عليها النهضة، وما هي واجباتهم للحفاظ عليها، ويرددون معهم النشيد الوطني، فلا زلت لا أفهم حتى الآن لماذا يجب على الطلبة فقط ترديد النشيد الوطني؟
لا شك أنّ أيام قليلة قدمت جرعة وطنية كبيرة للطلبة لم تفلح ربما سنوات عدة في تقديمها، وربما هذه الجرعة تعوض دروس المواطنة الغائبة، إنها تأتي " لتوقظ الروح الوطنية" على حد التعبير الذي استخدمه مولانا السلطان المعظم في بداية السبعينيات للإشارة إلى هدف التعليم الأساسي، وعودة مولانا أيقظت الروح الوطنية داخل كل العمانيين، وفي داخل المؤسسات التعليمية التي بحاجة لأنّ تعمل بجد خلال الفترة القادمة على تحقيق هذا الهدف، وأولى آليات تحقيق هذا الهدف هي تواجد المسؤولين عن شؤون التعليم في المدارس والكليات والجامعات بشكل دوري، فصورة مولانا داخل الفصول الدراسية يتحاور مع الطلبة رغم مسؤولياته الكبيرة، يجب أن تكون محفزًا للمسؤولين عن المؤسسات التعليمية في الفترة القادمة، فتواجدهم مع الطلبة بداية حقيقية لإيقاظ الروح في هؤلاء الشباب الذين يملأون الفصول في مختلف المؤسسات التعليمية، وإذا ما استيقظت روحهم الوطنية كما يجب جعلوا هذا الوطن أكثر ثراءً، وأكثر حيوية في التعامل مع المتغيرات والتحديات.
saifn@squ.edu.om