عهود الأشخرية
استكمالا لما بدأت به في مقال سابق عن المنحورين باسم الجَمال أواصل هنا طرح سيرتهم التي حاول الرافضون لهم تشويهها واتلاف كل ما يتعلق بحياتهم ورسائلهم سواء كانت روحية أو فلسفية، ربما لا أتعمق كثيرا في ذلك؛ إنما مجرد شرارات ولمحات بسيطة؛ مُقدمة أبسط من أن تفي حق كونهم في هذا الوجود الذي لم يُقدّر لهم ذلك. في نهاية الأمر، هناك بريق ضوء يبقى حتى وإن تم محاربة الجمال بهذه الطرق البشعة التي تُسيءُ للإنسانية جميعها، تسيءُ لهذا العالم الذي كان يجب طرقا أفضل لفعل ذلك.
بداية مع ابن المقفع وهو أبو محمد عبدالله بن المقفع صاحب كليلة ودمنة، وبتهمة غامضة بين أمرين لقيّ حتفه بطريقة بشعة جدا؛ فقد تم تقطيع لحمه وشويه في النار وقال لحظة موته: "إذا ما مات مثلي مات بموته خلق كثير.. وأنت تموت ليس يدري بموتك لا الصغير ولا الكبير". التهمة التي وجهت إليه بداية هي الإساءة لسياسة الدولة والوقوف أمام الأوامر التي تصدر من الحاكم ومعارضتها بالنصيحة، لكن هناك أقوال كثيرة تُرجح أنه قُتل بسبب الزندقة، وإنه حورب كثيرا بسبب هذه التهمة التي وُجهت إليه، هذا الاتهام ما هو إلا دليل قاطع تماما للجهل والتفكير العقيم؛ إذ أن مثقفا كابن المقفع يجب أن تُحفظ سيرته، وتتداول كتبه عبر الأجيال الكثيرة لا أن يُقتل بهذه الطريقة البشعة والمؤلمة جدا.
وهناك بالطبع غيره الكثير ممن كان لهم دور هام في علوم أخرى كالفلك والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء والاجتماع والفنون والآداب، لكنهم وقعوا في معركة الجهل والتخلف بطرق مختلفة، ومن هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر: ابن سينا وهو أبو علي الحسين؛ الطبيب العبقري الذي كان له دور هام في مجال الطب إلى جانب الفلسفة والفقه وغيرها، وقال عنه ابن القيم: "انه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، هكذا فقد وجهت تُهم كثيرة لا سبب لها إلا الجهل والنكران لكنه رغم ذلك ترك خلفه مؤلفات كثيرة وأعماله مقدسة حتى يومنا هذا في مختلف المجالات ومنها: القانون في الطب وكتاب السياسة وتسع رسائل في الحكمة والطبيعات والشفاء الذي ألفه في فترة وجوده في السجن، فقد استغل تلك الفترة في تأليف الكتب فقط وغيرها العديد.
وبالتهمة ذاتها احرقت كتب ابن رشد الأصفهاني واتهمه الخليفة المنصور اتهامات كثيرة لا داعي لها بسبب مؤلفاته الفلسفية والفكرية، وكفِّر ابن الفارض وتمت مطاردته في كل مكان والإساءة إلى سيرته ومحاولة التخلص من طريقة تفكيره في الكون التي وصفت بطريقة سيئة، حيث كان ينعت بالزنديق لأنه كان يسعى لوحدة الوجود بطريقته الخاصة حيث قال: "ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها.. وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت"، لكن ولحسن حظنا لا زال صدى جماله باقيا لم يتلاشَ. وكذلك تمت الاساءة إلى الطبيب والفيلسوف أبي بكر الرازي حيث قال عنه محمد بن موسى الخوارزمي: "انه وإن كان علمه صحيحا إلا أن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره"، وقيل عن أبي العلاء أحمد بن عبدالله المعري: "انه كان من مشاهير الزنادقة، وفي شعره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين"، والأمثلة كثيرة جدا في ذات التهم والمطاردات والحرق.
فماذا يريد العالَم من ملاحقة الجَمال ومحاربته دائما؟ لمَ علينا أن ننظر لكل شيء من زاوية ضيقة ولا نتوسع في نطاق تفكيرنا؟.. هؤلاء أعداء الفن الذين يسعون دائما إلى تشويه الحقيقة وتشويه قداسة الكلمة لمزيد من الجهل والظلمات العقيمة. لقد ظلّت الفلسفة تُحارَب على مدى أزمانٍ طويلة، وخلال ذلك يتحول حق الإنسان في التفكير إلى ساحة مؤبدة للحرب والتكفير الذي لا طائل منه ولا قيمة تُرجى منه، وبهذه الطريقة تتم مصادرة الوعي في مجتماعاتنا بشكل مباشر أو غير مباشر، وأيضا مصادرة الإبداع الذي يعتبر حقا من حقوق الإنسان. أخيرًا، علينا أن نخرج من هذا الضلال حتى نصعد إلى مراتب أعلى من هذه التي نقبع بها، علينا قبل كل شيء أن نهتم بفكر الإنسان لأنه الأداة الوحيدة التي بها ستصعد بنا إلى حيث نشاء.
Ohood-alashkhari@hotmail.com