محمد العريمي
قال لي زميلي الدكتور المصريّ الذي يحاضر معي في نفس الكلّيّة وهو يتوشّح شالاً يحمل شعار السّلطنة ألبسه إيّاه أحد طلبته: منذ أن حضرت إلى بلدكم قبل ستّة أشهر من الآن وأنتم لا حديث لديكم سوى السّلطان وصحّته وموعد عودته! كنت أعتقد قبل هذا اليوم أنّ الأمر مبالغ فيه بعض الشيء، وأنّه لا يعدو في جزء منه بهرجة اعلاميّة تصنعها وسائل إعلام موجّهة، ولكن ما رأيته اليوم من مظاهر فرح في نفوس طلابي كان شيئاً يفوق الوصف والخيال، وهي أكبر من طاقة أيّ آلة إعلاميّة على الرّغم من أنّه لا يوجد لديكم اتّحاد قوميّ ولا اشتراكيّ ولا تنظيم طليعيّ ولا حزب بعث أو نهوض أو نكوس يحشد النّاس رغبة أم قهراً ويوجّه آراءهم، فما سرّ كل هذا الحبّ لشخص السّلطان؟!
أي زميلي وجاري في المكتب.. اسمع ما سأقصّه عليك، وإن أردت المزيد فلا مشكلة لديّ بتاتاً، وتأكّد أنّ ما سأرويه قد لا يعبّر سوى عن جزء من مائة جزء لتفسير حبّ طلبتك وأهلهم ومجتمعهم بكامله لسلطانهم لدرجة إصابتك بالذّهول.
قبل أكثر من 45 عاماً من الآن فقدت والدتي -حفظها الله وأطال في عمرها- اثنين من أشقّائي ولداً وبنت بسبب أحد الأمراض التي كانت تنتشر بكثرة وقتها كانتشار النار في الهشيم، وكاد أخ ثالث - متّعني الله بحياته- أن يفقد سمعه بسبب مشعوذ أوهم الناس بطبّه أشار على والدي - رحمه الله- بوصفة خاطئة اضطروا لاستعمالها لأنّه لا بديل سواها. كانت دموع والدتي تتساقط كلّما سألتها بعفويّة عن إخوتي وملامحهم، وما إذا كنت أشبه أحدهم، وكيف ماتوا. وفي كلّ مرّة لا أجد أجوبة شافية لأسئلة طفل في مثل سنّي، فالاجابة تتوقّف عند المنتصف لتحلّ الدّموع محلّها، فلا ألم يوازي ألم الفقد، وبرغم مرور سنوات ليست بالقصيرة على رحيلهم عن دنيانا إلا أنّ الألم مازال كامناً في قلبها لا يرغب في مبارحته، فليس هناك من شيء أقسى على الأم من فقدان فلذة كبدها، فما بالك لو كانوا اثنين!!
لم تكن والدتي هي الوحيدة التي ثكلت بابنيها في قريتنا الوادعة وما حولها من القرى الواقعة على ضفاف بحر العرب، ففي كلّ بيت كان هناك ألم، وفي كلّ منزل كانت هناك نكبة، فهذا جار قد فقد ثلاثة من أبنائه في إعصار ضرب سفينتهم الخشبيّة في رحلة سفر طويلة بحثاً عن فتات يأتي بقوت أطفال جياع، وتلك قريبة قد فارقت طفلاً تألّم كثيراً أمام عينيها قبل أن يموت بينما هي عاجزة عن فعل أيّ شيء عدا الدموع، وتلك فتاة مات جنينها في بطنها فسحبها معه في رحلة فراق أبديّ وهي التي لم تكمل السّنة الأولى من عالمها الأسريّ الجديد، وذاك فتى سافر إلى أقصى الخليج ليعمل (صبيّاً) فألقي جثمانه في البحر موثّقاً بحجر كبير من أثر حمّى لم يستطع جسده الهزيل الذي عانى كثيراً من سوء التغذية تحمّلها، عدا العشرات ممّن شوّهت الحصبة أو الجدري وجوههم، أو ذهب الرّمد بما تبقّى من ماء عينهم، وعدا بيوت العزل الصّحّي التي بقيت شاهداً تؤرّخ لحقبة مضت، ومقابر فرديّة وجماعيّة خصّصت لدفن ضحايا مرض بعينه لدرجة أن النّاس قد عمدوا إلى تأريخ أحداثهم فهذه سنة الغرقة، وتلك سنة الكوليرا، وثالثة سنة الجرفة، وقس على ذلك سنوات سوداء كثيرة تحمل أسماء مشابهة توثّق لحكايات من الألم وقلّة الحيلة، والتّسليم بقضاء الله.
وطوال سنوات طفولتي وصباي كنت أقترب من والدتي كلّ ليلة لتقصّ لي حكايات عن سفن والدها، وعن أسفار والدي إلى الهند وشرقي أفريقيا واليمن، وعن المسافات الطويلة التي كانت تقطعها مع رفيقاتها لجلب الماء والحطب، وعن حروب عديدة جرت في المنطقة وأفنت عشرات الأرواح كان وراءها خلاف على بقعة أرض، أو على تلّة جرداء، أو لأنّ أحدهم قتل آخر بسبب كلمة فثارت قبيلته طلباً للثأر. كلّ هذا والطّفل الصّغير في داخلي يتساءل باستنكار ودهشة: لماذا يبحثون عن الماء في الصّحراء ولا يأتون به من الخزّان! ولماذا يستخدمون الحطب في الطّبخ! ولماذا يتقاتل أولئك بينما السّيوح التي تتحدّث عنها والدتي شبه فارغة ولا تجد من يسكنها! وهل عدم المكان من تلال وجبال أخرى يمتلكها أولئك القوم بدلاً من أن يتقاتلوا على احداهن! ولماذا لا يوجد من يأتي بحق ذلك الذي قتل بدلاً من أن تقوم قبيلته بذلك! وأين الشرطة عن هؤلاء بدلاً من تركهم يتفانون! ولماذا كان الصّغار يسافرون مع أهلهم في (خشبهم) ولا يذهبون إلى المدرسة صباحاً، أو يلعبون الكرة مساءً، أو يتابعون الرّسوم ليلاً!! هل هم مجانين ليتركوا لعب الكرة ووجبة الاستراحة وقصص الأستاذ حسين ليسافروا وسط الأمواج!! ولماذا لست الآن على ظهر سفينة أو في الكويت أو قطر أو الدّمّام أبحث عن فتات عيشي كما فعل كثير من أقاربي عندما كانوا في مثل سنّي! لم يكن سنّي وقتها يسمح لي بأن أعي أنّه لم يكن في زمنهم قبل 45 عاماً ما يسمّى بالقانون أو الشّرطة أو المستشفى أو المدرسة، وكان هذا قبل أن أذهب إلى الجامعة وألتقي بزملاء دراسة وشركاء وطن كنت أعتقد وأنا صغير أنّهم من عالم آخر لمجرّد أنّهم يختلفون معي مذهبيّاً أو اجتماعيّاً، وأصبحوا فيما بعد أقرب إليّ من حبل الوريد بعد أن نجح السلطان أن يمزج كلّ اختلافات أبناء الوطن في كيان واحد هو عمان، وقبل أن أدرك أن البحث عن التعليم وقتها كان يستدعي المغامرة بركوب سفينة خشبية قد تقود إلى المجهول كي ينال الفرد فرصة التعليم المسائي في إحدى الدول، بعد أن يعمل صباحاً في مهنة قد لا تليق بإنسانيته وكرامته، أو أن يقطع الفيافي والجبال متحملاً كل المصاعب، كي ينال نفس الفرصة، أو أن يغامر أحدهم بإرسال ابنه مع جار، أو قريب بعيد يعمل في دولة مجاورة كي ينقذه من مغبّة الجهل، أو أن يتغرّب أحدهم لسنوات في قرية بعيدة في أطراف صعيد مصر تدعى (ساحل سليم) كي يجد ما يتعلمه، وكان هذا كذلك قبل أن أتزوّج وأنجب أطفالاً ترتفع حرارة أجسادهم أحياناً بسبب نفس الأمراض التي أودت بحياة أعمامهم قبل أكثر من خمسة وأربعين عاماً من الآن فتسكن تلك الحرارة بمجرّد شربهم لدواء خافض لها ليعاودوا نومهم بعدها في سكون! كان هذا قبل آلاف الأشياء الجميلة التي نشأت معها وكبرت معي بينما حرت منها أجيال كان من سوء حظّهم أنّهم أتوا سابقين لهذا العهد.
هل عرفت زميلي الفاضل الآن لماذا هم يحبّونه لدرجة الذهول؟!