نظرة السلطان قابوس للثقافة والمثقفين(2– 2)

ناصر أبو عون

تتميز الثقافة العمانية بالأصالة العريقة والتراث العماني خاصة والعربي الإسلامي عامة حيث تتخللها الحداثة المعاصرة لتكون جزءًا من العالم تتأثر به وتؤثر فيه. فتجربة التحديث العمانية تميزت بالانطلاق من إيجابية التراثين الثقافي والحضاري، فسمات التحديث فيها مستوحاة من تجربة خاصة ولها سماتها العُمانية البحتة دون الاعتماد على أيّ شكل من أشكال الاقتباس السهل من الخارج على غرار ما قامت به غالبية الدول العربية منذ النهضة الأولى وحتى الآن، فجمعت عمان بين الأصالة والحداثة دون وضعهما في موقع التعارض. وللعمانيين هوية اجتماعية وثقافية متميزة رغم أنّ المجتمع البشري متنوع وعميق وثريٌّ في جوانبه الثقافية والاقتصادية والدينية، ومن المفاتيح المهمة لفهم الشخصية العمانية الرجوع إلى تاريخها الموغل في القدم وإلى الهجرات العديدة من وإلى السلطنة وغيرها من دول العالم، والاختلاف والتعدد صيغ في إطار الوحدة الوطنية نتيجة رؤية القيادة الحكيمة للسلطنة التي استفادت من ثراء التنوع بعيدًا عن التفرقة وكذلك عن طريق ترسيخ مبادئ التعاون والتماسك فيما بين العمانيين وتفعيل مشاركتهم في تحمل جهود التنمية وبناء الوطن، فالانسجام الثقافي العام في السلطنة تحكمه الكياسة وتضبطه الحكمة. وتعتبر المحافظة على الهوية العمانية من مميزات مسيرة النهضة العمانية؛ فالرؤى الواضحة للأولويات الخاصة بالتطوير والتحديث في إطار الاحتفاظ بروح هوية عمان الأصل والحداثة يرجع إلى مقدرة خاصة تميزت بها عمان. ففي الوقت الذي تسعى فيه إلى مواكبة العصر عبر بناء وتشييدٍ وتعميرٍ وتنميةٍ شاملة في المجالات كافة- فإنها تحافظ في الوقت ذاته على خصوصية وهوية التراث العماني والثقافة العمانية وهو الأمر الذي يؤكد على أنّ الحضارات لا تتصارع وإنما تتحاور وتتمازج وتتساند لتشكل في مجملها مجالاً أرحب يتَّسع لتعيش شعوب العالم في أمن واستقرار.

لقد شكلت البنية الفكرية لدى جلالة السلطان قابوس نظرته الثاقبة إلى الثقافة والتراث ودورهما في بناء الشخصية العمانية وقد أكد في خطابه على فكرة مدارها أن العقل لا يزدهر إلا بمقدار ازدهار الثقافة التي ينشأ عليها فهي رحم العقل وهي قالب العواطف وموجه السلوك فالجنين يحتضنه رحم أمه في فترة التخلق فيمده بما يغذيه وينفعه ويحتاج إليه أما حين يغادر الفرد هذا القرار المكين فإنّ رحم الثقافة يستقبله ويصوغه في قوالب ثقافية تتوارثها الأجيال آلاف السنين قوالب متنوعة وجاهزة يتشكل بها كل من تقذف بهم الأرحام إلى الدنيا إن الثقافة تصوغ الفرد دون اختياره فيتشكل عقله ووجدانه بما يلائمها لا بما يلائم الفرد إنها تنقل الفرد من حالة الطبيعة الطيِّعة القابلة لأية صياغة إلى نمط محدَّد من الأنماط الثقافية وبذلك يخرج من حالة القابلية الهلامية وينتقل إلى شكل محدَّد من أنماط العقل فيكتسب طبيعته الثانية الأكثر استقراراً وثباتاً ويبقى مأسوراً بها في الغالب طول حياته فالثقافة مستقلة عن الأفراد إنها الرحم الذي تتخلَّق فيه العقول وتصاغ العواطف وتتحدَّد الاتجاهات وتتكوَّن الاهتمامات إنها ذلك الإطار المرجعي الضاغط والجامع الذي يصاحب الأفراد منذ ولادتهم ويستمر معهم أو يستمرون معه إلى يوم وفاتهم لا يخرجهم منه تعليم ولا عمل ولا يخفف سلطانه سفر ولا انتقال ولا تجدي للفكاك من أسره شهادات عليا أما المفتاح الوحيد الذي يعيد للفرد ذاته فهو امتلاك العقل الناقد الذي يتيح للفرد أن يراجع محتويات ذهنه ويعيد فحص عاداته وطريقة تفكيره فيبني وعيه بنفسه ويتحمَّل مسؤولية تكوين رؤاه ومواقفه وسلوكه. وهو المعنى الذي أكد عليه جلالته في كلمته للطلاب والأساتذة عام 1986 في حفل افتتاح جامعة السلطان قابوس "إياكم من أحد يصادر لكم أفكاركم بأيّ طريقة كانت دينية وغير دينية فالإنسان منّا يجب أن يفكر ويتدبر وهناك أسس يجب أن تكون محاطة بالتفكير والتدبر حتى لا تكون أيضًا من الخيال من اللازم".

وبمطالعة المشهد الثقافي العماني الذي صنعه السلطان قابوس على مدار أربعين عاماً وبمعاينة حضوره الفكري في المنظومة الثقافية ومأسستها منذ السبعينيات وإقامة بنيتها التحتية في تشييد الصروح التعليمية والجامعية وتأسيس الجمعيات المتخصصة في الفلكلور والموسيقى والآداب، فإنه يمكن استخدام كلمة "ثقافة" داخل بنية المجتمع العماني في التعبير عن أحد المعاني الثلاثة الأساسية التالية: (التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية، وهو ما يعرف أيضاً بالثقافة عالية المستوى .وهي أيضا نمط متكامل من المعرفة البشرية، والاعتقاد، والسلوك الذي يعتمد على القدرة على التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي، وهي في تشكلها النهائي عبارة عن مجموعة من الاتجاهات المشتركة، والقيم، والأهداف، والممارسات التي تميز مؤسسات ومنظمات وهيئات المجتمع العماني). وفي محاضرة بعنوان "خصائص الثقافة العمانية" قال المفكر الدكتور حسين عبيد غانم غباش بأنه (يُفضِّل أن يكون عنوان المحاضرة (تميز الثقافة العمانية) وليس خصائص الثقافة العمانية لأنّ السلطنة تتميز بأشياء لا توجد في دول الخليج والدول العربية الأخرى وهي تستحق كل العناية والاهتمام وثقافتها السياسية استثنائية. هناك طاقة معنوية وأخلاقية في خصائصها ومن أين لها وللعمانيين هذا الثراء المعنوي والروح الوطنية العالية؟ هناك قيم متجذِّرة في التاريخ العماني وعندما نعود للبيئة الاجتماعية نجد القبيلة والفكر الأباضي والشورى وأهم ما يميز عمان هو المشاركة والمواطنة واستمرارهما. إذا وضعنا القيم التقليدية القبلية مضافا إليها مبادئ الإسلام العدل والشورى فإننا نستطيع الاطمئنان على مستقبل السلطنة وأنها ستكون محصنة من كل الشرور.ومن ثمَّ فإنّ الثقافة في مجملها يمكن أن تكون مسار التحرر التدريجي لذات الإنسان واللغة والفن والدين والعلم هي اللحظات المتتالية لهذا المسار. إذ في كل مرحلة من هذه المراحل ينكشف الإنسان ويختبر قدرة جديدة هي بناء عالم جديد والبحث عن وحدة جوهرية في هذا العالم المثالي المبني. وهو ما أكده جلالة السلطان قابوس عام 2001 لدى افتتاحه جامع قابوس الأكبر بولاية بوشر الذي قال فيه "قد عزمنا بفضل الله وتوفيقه على أن نجعل من هذا المسجد المبارك مركزاً للثقافة والفكر يسهم بنصيبه في إحياء التراث الإسلامي بمشيئة الله وإبراز القيم الحضارية للأمة وتحديث أساليب معالجتها لشؤونها وقضاياها بما يحفظ عليها أصالتها ويصون ثوابتها وقيمها ويواكب في ذات الوقت مسيرة التقدم الإنساني في مختلف مجالات الحياة"

وانطلاقًا مما سبق يمكننا هنا الإشارة إلى مجموعة من التوصيات يتوجب الأخذ بها كخطوة أولى على طريق حفظ الثقافة العمانية من الضياع، وتجذير موروثها، وتثبيت دعائمها، ونقلها من جيل إلى جيل عبر حاضنة شعبية ورسمية (تكون الحكومة والمواطن) شريكين في بنائها وتطويرها وتحديثها بما يتواءم وضرورات العصر. وليست هذه التوصيات بدعا من لَدُنا ولكن أوصى بها (ملتقى الجامعة العربية المفتوحة و"هيئة الوثائق والمحفوظات") ومن أهمها:أن تقوم الهيئة بعقد الندوات عن الوثائق والمحفوظات العمانية محلياً وإقليماً وعالميًا، وكذلك تشجع مالكي وحائزي الوثائق والمخطوطات العمانية التي بحوزتهم لتسليمها لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وتشكيل فرق بحثية بهدف دراسة الوثائق والمخطوطات العمانية في الأرشيفات الأجنبية، وتتبع الشخصيات العمانية الفاعلة في التاريخ العماني في جميع الفترات الزمنية المختلفة، وترجمة الوثائق والمخطوطات ذات الصلة بتاريخ عمان التي كتبت بلغات مختلفة مثل البرتغالية والفارسية والتركية والصينية وغيرها، كما أوصى الملتقى بالاهتمام بطباعة الملفات الوثائقية في كافة الميادين المرتبطة بالتاريخ العماني، الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري والفكري، وكذلك التأكيد على الاهتمام بالتاريخ المروي والشفوي والإسراع في التوجيه بإنشاء مركز وطني تابع لهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية للعناية بهذا الجانب، نظرًا لأهميته التاريخية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وللحفاظ على ذاكرة الوطن، وطبع أعمال الملتقى في كتاب يحتوي على أوراق العمل التي طرحت وقدمت في الملتقى لإثراء المكتبة العمانية والعربية والعمانية وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، والتأكيد على التنسيق العلمي بين هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية والمؤسسات التعليمية لإقامة مثل هذه الملتقيات العلمية والثقافية والتي تؤكد إثراء التاريخ العماني في كافة الجوانب، والتأكيد على التواصل في عقد الندوات والمؤتمرات الهادفة مع المؤسسات الأرشيفية والهيئات والجامعات على الصعيدين الداخلي والخارجي.


Nasser_oon@yahoo.com

تعليق عبر الفيس بوك