ثقافة ردّة الفعل

د. صالح الفهدي

من الطبيعي أن يكون لكلِّ فعلٍ ردّة فعل، إنّما ليس من الطبيعي أن تكون الأفعالُ في غالبها مبنيَّةً على ردّات الفعلِ، كالرّاصدِ على الثغورِ حِراكَ الظّلال..! أو المهادن الذي لا يتحرّك إلا بناءً على حراكٍ مقابل..! أجدُ أن هذه إحدى مشكلاتنا المُعيقة التي تحتاجُ منّا إلى إطالةِ نظرٍ، وطولَ تدبُّرٍ في الحالِ والمآل. إن الأُمم التي تقدّمت هي التي لم تَبْنِ أفعالها على ردودِ الأفعالِ كمبدأ تبني عليهِ حِراكها، وإنّما هي الأمم المبادرة التي أتت "بما لم تستطعهُ الأوائلُ". هي الأمم التي استثمرت في البحوث والابتكارات والاختراعات دون أن تخالجها لائمة على ضياعِ مالٍ في هذا المسعى، أو تخبو لها عزائم في هذا المنال، أو تستعجلَ نتاجَ جهدها فتسارع في القطافِ دون أن يبلغَ الحصادَ موسمه..!. الأمم التي تقدّمت هي التي نظرت جليّاً في حالِ أمرها، ومآلِ مصيرها، فإذا بها تنتفضُ مبادرةً إلى ما يسعف جسدها إلى الشفاءِ، ويعين نفسها على صحيحِ الدواء، ويدفعها إلى السبقِ والنماء.

أمّا أن تكون "ردّة الفعل" هي الغالبة فتلك مشكلةٌ تحتاجُ إلى سبر أغوارها، وتجليةِ أسبابها، فإنكَ إن لم تتحرّك لإصلاحِ طريقٍ أنت تعلمُ مخاطره مسبقاً فلا تبادر إلا بعد وقوع الحادثِ الجلل فتلك ردّة فعلٍ مُلامة..! وإنك إن لم تشرع في بناءِ سدٍّ أنت تعي مسبقاً أن عدم إقامته ستكون له نتائجه المدمّرة فتلك ردّة فعلٍ غير مبرّرة..! وإنك إن لم تسرع في إنقاذِ مؤسسةٍ من المؤسساتِ، أو مرفقٍ من المرافق أنت تعلمُ أنّه قد يتعرّض لفيضانٍ أو غرقٍ فتلك ردّة فعلٍ لا تقبلُ أعذارها..! وإنكَ إن لم تسدّ الثغرات في قانونٍ من القوانين، أو نظام من الأنظمة تعلم ما فيه من الخلل والخرق ما يمكّن المتلاعبين والمخترقين منه فتلك ردّة فعلٍ غير مسؤولة..!

وإنني لأجدُ كثيراً من الأمورِ تُبنى على ردّات الفعلِ التي تأتي متأخّرة، وغالباً ما يصاحبُ ردّات الفعل سرعةٌ في التنفيذِ، وإرباكٌ في المعالجة، وضعفٍ في تحديد العيوبِ، وإصلاحِ مواطن الخلل..! فإذا بالجهودِ تذهبُ سدى، وإذا بالأموالِ تضيعُ هدرا، وإذا بالإصلاحِ يصبحُ مشكلةً في حدِّ ذاته..!

إنّ ثقافة "ردّة الفعل" متفشّيةً وعميقةً في المجتمع، فنادراً ما يكترثُ أحدٌ بطُرقِ الإسعافات الأوّلية وهي إحدى أهّم وسائل الإنقاذِ السريع للإنسان..! وقلّما نسمعُ عن خطّةٍ أو ورشةٍ أو دورةٍ في إدارةِ الأزمات..! وقليلاً ما يكون التحرّكُ تحسّباً لضررٍ حادث، أو تنبُّأًٍ لصدعٍ متوقّع، أو تحرّزاً لخرقٍ في القانونِ مقدّر..! التحرّكُ في غالبِ الأحيانِ بعد "وقوع الفأسِ على الرأس" وحينها فإنّ ثمن الإصلاحِ عظيم، وخطرُ الواقعةِ جسيم..!

وإذا نظرنا فينا كأفراد نجدُ أننا لا نجدُ للمبادرةِ فينا عزماً، ولا همّةً، إنّما مجرّد نيّاتٍ مسوّفةٍ - في أضعفِ الإيمان- وأقربُ مثلٍ هو الفحصُ الطبيِّ الذي يتجاهلهُ أغلبنا، ويسوّفُ فيه أو لا يكادُ يكترثُ به، وهو من أعلى المهام أولويّة، وأرفع الواجبات منزلة مصداقاً للمثلِ القائل "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، إنّما ننتظرُ - لا سمح الله - المرض أن يفرضَ وجوده، ويعلن عن حالته، وما استفحال نسبة 12% من مرض السكري في مجتمعنا إلاّ نتيجةً لعدم الأخذِ بزمامِ المبادرة في الكشفِ المبكّر الذي يقي الإصابةِ به في أغلب الأحيان.

في يومٍ من الأيام اقترحتُ مشروعاً لإنشاء "مركز التثقيف الصحي" حيث كنتُ عضواً متطوعاً بلجنة الصحّة في الولاية، لإدراكي بأهمية المبادرة التثقيفية للتوعية من العادات الخاطئة، وطرق تجنّب الأمراض، فتبنّت اللجنة المشروع وكوّنت لجنةً ثلاثيّةً كنتُ عضواً فيها قابلنا بعدها مسؤولاً في الوزارة المعنيّة فقال إن الوزارة لديها النيّة لإقامة المركز فلم تقمه الوزارة ولم تُساند اللجنة في عزمها على إقامته..! وفي دراسةٍ أجريتها منذ عشرة أعوامٍ عن حوادث المرورِ وأسبابها أوصيتُ ضمن ما أوصيتُ به بتشكيلِ لجنةٍ فنيّةٍ لرصدِ النقاطِ السوداءِ في الشوارع والتحرّك سريعاً لإصلاحها قبلَ الفواجعِ فلم أسمع عن إنشاءِ لجنةٍ كهذه..! ومنذ أيامٍ قابلت رئيس جمعية طب الطوارئ والكوارث (قيد الإنشاء) فعلمتُ منه أن طلب الإشهار مضى عليه عامان في الوزارةِ المعنيّةِ..! وفي جانبِ الفكر علمت من صاحب مشروع مجلةٍ للأطفال أنّ طلبه قد مضى عليه عامٌ في الوزارة المعنية دون رد..!

هذه الأفكار والتصورات والجهود هي مبادرات تهدفُ إلى الفعلِ لا ردّة الفعل من أجل تفادي حدوث ما غُفلَ عنه، أو سُهي عنه، أو أهمل فيه، أو أخلَّ بتخطيطٍ فيه..!

فكم من قرارٍ جاءَ كردّة فعلٍ جعلك تتساءل لِمَ لم يكن من قبل وقد كان مبرراً لتفادي مشكلة، وكم من تحرّكٍ ساقته ردّةُ فعل كان ليكون أجدى لو سبق وقوع العلّة، ويسألُ السائلُ: أذلكَ من عجزٍ وتلكؤِ، أم من خلل في التخطيط والتنبؤِ..؟!! والإجابة هي ثقافة متفشيّة فيها من هذا وذاك..!

كثيرةٌ هي مشاريع المبادرات التطوعية وغير التطوعية تجهضُ دون سببٍ يذكر وهي لو قامت لكانت تسهم في التحرّك المسبق لمنعِ كارثةٍ، أو التنبيهِ لإيقافِ خطرٍ وشيك، أو منع مرضٍ خبيث. فلا تُركَ لها المجال لتفعيل الجهود وإطلاق المبادرات النافعة، ولا حلّت محلّها البدائل، ولا قامت الجهات المعنيّة بدورها المسؤول بل بقيت الأحوال على ما هي عليه تجري بوتيرةٍ رتيبة في حين تقطعُ الأمم المبادرة مسافات فارقة.

وبإزاء ذلك تجد ضعفاً في نشر ثقافة المبادرة في المجتمع لذلك ترك الكثيرون الأمور تسيرُ كيفما اتفق دون الأخذِ بالأسباب ومن ذلك توليد الأفكار، وتحديث الاجتهاد، واستمرارية العصف الذهني، والتخطيط وإبقاء العزائم متوقدة، ومراجعة السياسات، وتبني المبادرات، واستبدال نظم العمل، وطرق التطبيقات.

صحيحٌ أن الحياة تسيرُ في بعض مناحيها بناءً على ردة الفعل، ولكن أن يكون أغلب سيرها، ومعظم تحرّكها مدفوعاً بردّة الفعل، فذلك يعني إشكالية متجذرة يجدرُ النظر ملياً في طرقِ حلّها دون تباطؤ وتقاعس..!

إنّ الجمودَ في الفكر، والخمودَ في الهمم لا يقودُ إلاّ إلى الوهن والضعف، وإن التسليمَ بصحّة كل شيءٍ -عدا القطعي في العقيدةِ- لا ينتجُ عنه سوى التحجّر والتأخّر، وإن عدم المبادرةَ أو إعاقة الجهود، ووأد الطاقات الخلاّقة في كل ما من شأنه إعلاء شأن الوطنِ، وازدهار المجتمع ستكون عواقبه وبيلة.

تعليق عبر الفيس بوك