مع إشراقة الصباح على هذه الأرض، تبدأ أشعة الشمس في التسلّل إلى كل بُقعة لتنير ظلام الليل وتبدد سكون العتمة.. لنيمم شطر البناء والعمل .. كلٌ يتّجه إلى رزقه .. وكلٌ يتبنى هدفه ليبني عليه أهدافًا أخرى .. نعم إنّها الحياة فهي تحتاج إلى بذل الجهد والمثابرة من أجل أداء الواجب لنيل الحقوق التي كفلتها الشرائع السماوية ثم القوانين الوضعية.. الطرقات تبدأ في استقبال المارة عليها.. الشوارع تتهيأ لسيل من الازدحام على وقع عجلات السيارات.. إنّهم البشر فهم في عجلة من أمرهم .. إلى أين يتجهون..؟ ماذا يريدون؟ هل هم في الاتجاه الصحيح..؟ لماذا يزدحمون هكذا في الصباح الباكر.؟ مالي أرى بعضهم " وهم كُثر" كأنّهم يساقون بقوة القانون؟ وجوه لا تُريد التحدث أو الاستمتاع بكل تفاصيل الحياة.. وجوه مكفهرة متضايقة.. أفواه مليئة بالتثاؤب.. عيون مرددة من فرط شبق النوم " آه لو اليوم إجازة" .. عقول تتزاحم بأضدادها.. وأفئدة تهتز طربًا لصوت العصافير.. أجسادٌ تريد كل شيء .. لكنها لا تؤمن بأن تضحي بأقل شيء.. هي تُريد الكثير لكنها وفي ذات الوقت تحس بتأنيب الضمير إذا أعطت أمنياتها فرصة التحليق في عالم يتحسس الأمنيات.. وكلٌ يغني على ليلاه إلا هي.. فليلها كان طويلا .. وصباحها عطر مخملي يشتاق إليه من يهوى كيانها.. فلولا تفاؤله لوقف كل شيء عند بداياته وانتهت أمنياته.. لكن هناك من يدفع بالأمنيات إلى ساحة المنازلة حتى تكون أو لا تكون .
إن لم يكن هناك هدف نريد تحقيقه فلنحرق كل الأوراق والمشاريع التي لا تؤدي إلى هدف لأنّ كثرتها طريق لمزيد من المجاملات والتأخير في بناء الحياة.. نعم علينا أن نتخلص من كل شيء لا يمكن أن يكون شيئاً محسوساً مادياً أو معنوياً.. وحقا كما قال الدكتور سيف المعمري "نضع السلة فوق الطاولة وليس تحتها" حتى نتحكم بجودة الفكرة ونرى أن التجويد في العمل ليس بصمة صباحية وبصمة مسائية وما بينهما هواء وخواء لا ثمن له.. نعم نضع السلة بكل تفاصيلها فوق طاولة الاجتماعات ونرمي بكل ما هو هزيل فيها بلا رجعة من أجل تحفيز الآخر بأنه قادر على تقديم ما هو أشمل وأثمن من ذلك.. نعم علينا بتمزيق الدفاتر وإتلاف الأقراص المدمجة ومسح المحفوظات حتى لا تشعرنا بأن أرشيفنا كبير ووفير من حيث الخزعبلات والترهات.. نعم علينا أن نفتح صفحة جديدة لنسجل تفاصيل رحلة اليوم بأهداف قابلة للتحقيق، وليس لمجرد إثبات حضور.. نعم نحتاج إلى من يصدق معنا ويحفز وجودنا.. لأن طاقاتنا قادرة على أكبر من ذلك ولا نختلف عن الآخرين الذين حققوا إنجازات عالمية وقادوا العالم بكل تفاصيله.. نعم فكروا وقدروا وقرروا.
إعادة النظر في كثير من شؤون الحياة لا تدل على ضعف أو فشل في اتخاذ الأفضل.. فلو تسللنا خلسة مثلاً إلى مختلف الأمور الحياتية اليومية لاتفقنا جميعًا بأن علينا إعادة النظر في أشياء كثيرة .. وذلك من أجل أن نهتم بالكيف وليس الكم.. علينا أن نعمل كثيراً ونتحدث قليلاً .. علينا أن نؤسس الأجيال وألا نوقعهم في نفس الخطأ بتكرار التجارب ذاتها.. علينا أن نتحاور حوارا متكاملا محكما ذا نتائج عملية قابلة للتنفيذ.. علينا أن نعترف بالفشل وتعطيل مسار التنمية.. علينا أن نبعد ونفصل شبح المصلحة الذاتية عن مبادئ المسؤولية، علينا إعطاء الفرصة للأفكار ذات الحيوية والقابلة للتنفيذ.. علينا جميعا دون استثناء.
ماذا لو أعدنا النظر في حجم الحقيبة المدرسية وكنّا جادين في محتواها..؟ ماذا لو أعدنا النظر في شخصية المعلم الذي يؤسس الأجيال وكنّا جادين في تقديم المعلم كمعلم وليس كجسد يفتقد إلى كثير من الأمور ؟ ماذا لو أعدنا النظر في جدران المدرسة ووضعنا مدرسة نموذجية عصرية لأجيال المستقبل؟ ماذا لو أعدنا النظر في الحوار والجدال الذي لا يؤدي إلا إلى توسيع الهوة بين واقعنا وأمنياتنا؟ ماذا لو أعدنا النظر وتحسسنا حاجة الأجيال القادمة بكل صدق وجدية؟ ماذا لو اعترفنا بالخطأ واعتذرنا عنه؟ ماذا لو قيمنا النّاس بإنجازاتهم الفعلية وليس بثرثرتهم القولية؟ ماذا لو اعترفنا بقدرات من هم أقل منّا مستوى وظيفيًا؟ ماذا لو أعطينا لكل متخصص مساحة الإبداع التي يمكنه أن يبدع فيها؟ .. ماذا لو أعدنا النظر في سباقنا على المناصب من أجل الجاه؟ ماذا لو أعدنا النظر في شخوصنا وسألناها .. ماذا تُريد أن تكون؟.
همسة :
من أجل الشوق المتنامي يومًا بعد يوم.. سأكسر القاعدة.. لأروي ظمأ متجددا.. ومن أجل كيانك المنتشي بوجودي (حتى وإن كان خجولاً) سأبقى أنا كما أنا مع بعض المتغيرات التي توافق الشوق نفسه.. فإن كُنتِ في الصباح فإليك أرسل أشواقي ولهفة عناق وجودك.. وإن كنتِ في المساء فلك أيضاً كالصباح وأكثر.. فالصباح يرتمي في حضنك ليستمد وهج الحياة .. والمساء يتسلل إلى عيونك لينهل سكون الحياة .. فصباحك ومساؤك شوق ممتد بلا حدود .. وصباحي وطن كما يروق لك.. والعشق طريق مفتوح لا يقبل التردد أو الخوف.
هلال بن سالم الزيدي
كاتبٌ وإعلامي
abuzaidi2007@hotmail.com