أسماء القطيبي
قبل أيام طلبت مني فتاة أعرفها أن اقترح عليها عنوان رواية لتقرأها، بدوري قُمت باقتراح رواية كنت قد أنهيتها مؤخرًا لما تحمله من قيمة فكريّة وأدبية بدت لي جديرة بإمضاء الوقت في قراءتها، بعدها بيومين تواصلت معي هذه الفتاة لتخبرني بأنّها قرأت في الإنترنت اقتباسات "خادشة" للرواية لا تتناسب مع معتقداتها، وعليه فإنّها تود أن اقترح عليها رواية أخرى (أكثر احتشاما وملاءمة). إنّ صاحبتي هذه من تلك الفئة من الناس التي تريد أن تقرأ وتفكر في الحدود التي وضعتها لنفسها فقط، وتبتعد عن كل ما يحمل رؤية مغايرة للحياة. وتصرفها هذا ليس إلا موقفًا واحدًا من أشكال الخوف من المعرفة. فما الذي يجعل هؤلاء يخافون من أفكار الآخرين؟ وما الذي يمنعهم من الانفتاح عليها؟
إنّ هؤلاء الناس لا يميلون بالعادة لإحداث أي تغيير في حياتهم إلا بما تقتضيه الضرورة. وبما أنّهم تبنوا أفكارًا معيّنة لفترة طويلة من حياتهم بما شكّل شخصيّاتهم وردات أفعالهم التي تكاد تكون متوقعة، فإنّهم لا يميلون لتغييرها، لما سيكون عليه الأمر من غرابة أولا، وما سيتطلبه من جهد للتعايش مع هذه الأفكار وتطبيقها في حياتهم ثانيًا. هذا ما يسميه الخبراء النفسيون بـ (عدم الرغبة في الخروج من منطقة الارتياح)، بدافع الخوف من خوض التجربة نفسها، ومن التغيير الذي ستحدثه في حياتهم ومستقبلهم، وحتى الخوف من نظرة الناس لأي تغيير بسيط يطرأ على شخصيّاتهم، لذا فهذه الفئة من الناس تفضل دائمًا البقاء في منطقة أمانها وعدم المخاطرة.
يصل الأمر بالبعض أنك لو قمت بعرض فكرة جديدة أمامه فإنّه لا يكتفي فورًا بحشد كل مخزونة العقلي لدحضها، بل إنّه يقوم بالبحث عبر الوسائل المتعددة عن كل ما من شأنه تقوية حُجّته في نقض هذه الفكرة، إنّه لا يعطي لنفسه الفرصة في النظر بحياد لما تقوله. بل إنّه لا يمكن أن يكتفي بتقبل أنّها تمثل جانبًا آخر من التفكير لأصحابه وجهة نظرهم التي تدعمها. وهكذا يتحوّل أي حوار فكري ونقاش مفتوح إلى تحدي، يصل أحيانًا إلى الاستهزاء بالفكرة وعقليّة من يعتقدون بصحّتها لتفوز وجهة النظر المتعصّبة بالحقيقة المطلقة!
أتساءل أيضًا هل أصحاب القناعات التي لا تتزحزح حقًا مقتنعين بها؟ أم إنّ دفاعهم عنها ليس إلا دفاعًا عن قناعات آبائهم التي تربوا عليها دون أن يفكروا في ماهيّتها وبنوا حياتهم على أساسها؟ أليست القناعات المهزوزة هي التي تجعل صاحبها يرفع صوته ويعلي عقيرته في سبيل إثبات صحتها لنفسه قبل الآخرين؟ هل يخاف هؤلاء من أن يتعرّضوا لاختبار يُربكهم أو أسئلة تجعلهم في حيرة فيقدمون حججهم قبل حجج الآخر؟ إنني لست ضد أن يبدو أحدنا مقتنعًا برأيه متمسكا به، لكنّي لا أفهم تلك الاندفاعية التي تجعل البعض يبدو كالمجنون الذي يعتقد أنّه أعقل النّاس وأكثرهم اتزانًا. ثم إنّ هناك فرقًا بين أن يستمع أحدهم للآخر ليعرف، وبين أن يستمع له وهو يتأهب لمقاطعته بالإجابة المفحمة. فالأول هادئ، لا يتوانى في طرح الأسئلة، بينما الآخر يبدو متوترًا وكأنّه في امتحان صعب. وأحدهما فقط هو من يمكنك ملاحظة أنّه إنسان متجدد، جدير بالنقاش والحوارات الطويلة الشائقة.
إنّ أي قارئ جاد يدرك أنّه ما إن يفتح الصفحة الأولى من أي كتاب فإنّه ينتقل مباشرة إلى عقل الآخر الذي قد يختلف عنه نشأة ولغة وحدودًا جغرافيّة. هذا الإدراك في اختلاف الآخر هو ما يجعل القارئ أكثر تشويقًا للمعرفة، وأكثر تفهما للاختلاف مهما بدا غريبا. فالقراءة كما يقال دائمًا تمنح المرء في حياته الواحدة أكثر من حياة. وهذا الأمر ينطبق على أفكار الآخرين الذين نصادفهم في حياتنا، فإن لم تكن في أفكارهم إضافة لنا - ونحن لسنا مجبرين على تبنيها على أية حال- فعلى الأقل نكون قد فاضلنا بين خيارات متعددة، وهو تمرين جيد لعقولنا حتى تصبح أكثر نضجا في اختياراتها. وإن كان ثمة فائدة للسقف الإعلامي اللامحدود فهو مقدار الانفتاح الفكري والثقافي الذي أتاحه لنا، والذي مكننا من أن نطلع على ثقافات ومعتقدات أخرى وأن نتواصل مع أصحابها. ولعل هذا القرب هو ما جعل البعض خائفا على نفسه مفضلا العيش في قوقعته، ليبدو شخصا غريبا على الناس الذين يملكون العالم في هواتفهم الذكية.