عيسى بن علي الرواحي
تؤدي الصحبة دورًا كبيرًا بل أساسيًا في تحديد سلوك الفرد، وبيان اتجاهاته في مناحي حياته المختلفة، فالصحبة الطيبة الصالحة لها آثارها المحمودة ونتائجها اﻹيجابية على الفرد دينيًا ودنيويًا، والصحبة غير الصالحة لها نتائجها السلبية ومساوئها الكبيرة على صاحبها كذلك؛ ونظرًا لأنّ المرء مدني بطبعه اجتماعي بفطرته، وأنه قليل بنفسه كثير بإخوانه فإنّه لا غنى له عن الصحبة؛ فهي مطلب فطري ونفسي في ذات الوقت، وبالنظر في مقال اﻷسبوع الماضي الذي كان بعنوان (مستريحٌ ومستراحٌ منه) يتبين أنّ الصحبة ذات علاقة كبيرة بحال المرء عند وفاته في أن يكون مستريحا أو مستراحا منه، فالرفقة الصالحة طريق النجاة، ورفقة السوء طريق الشقاء. وفي مقال اليوم سنقتصر الحديث على الرفقة الصالحة والصحبة الطيبة وآثارها المحمودة على الفرد والمجتمع.
في كتاب الله الكريم نجد أنّ الله تعالى قد أمرنا في أكثر من آية أن نكون مع الجماعة المؤمنة حيث يقول تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [سورة الكهف : 28]
وفي تفسير ابن كثير لهذه الآية الكريمة اﻵتي : (( اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء، وقوله: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه.))
ويقول تعالى في آية أخرى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [سورة التوبة : 119] وحول هذه الآية الكريمة ومضمونها يقول الدكتور محمد بن راتب النابلسي في كتابه"منهج التائبين": (( إن النفس تتأثر بما حولها؛ عش مع التجار تتمنى أن تكون تاجراً، عش مع اﻷتقياء تتمنى أن تكون مثلهم.
وإن أدمنت العلاقة مع الفساق تشتهي أن تكون مثلهم - والعياذ بالله-. البيئة هي مشكلة الإنسان الخطيرة؛ يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) وبعدها يبيّن طريقة التقوى: (وكونوا مع الصادقين).
صحبة الأخيار في حد ذاتها عملٌ صالح، فأحِط نفسك بالمؤمنين الصادقين الأتقياء؛ تكُن منهم.))
كما نجد عدة آيات قرآنية حثت المسلمين على بعض العبادات وفضائل اﻷعمال بشكل جماعي، وهذا من الأدلة الأخرى التى تحث المسلم على الصحبة الطيبة التي تعينه على طاعة الله والابتعاد عن معاصيه، ولعل سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في اليوم والليلة مرات عديدة فيها أكثر من آية تدل على ذلك، يقول تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [سورة الفاتحة :5_ 6]، وآيات أخرى تدل على أهمية أن يكون المؤمنون متعاونين معتصمين بحبل الله متوادين قائمين باﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا يتأتى لهم ما لم يكونوا صحبة طيبة وإخوة متحابين يشد بعضهم أزر بعض، يقول الله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2] ويقول أيضاً : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) وفي آية أخرى يقول تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن ربه ما يشجع المرء ويحفزه على إيجاد صحبة تذكره بربه وتجمعه على طاعته، يقول الرسول _ صلى الله عليه وسلم_ :(قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَبَتْ مَحبِتي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ).
وإذا كان نبي الله وكليمه موسى _عليه السلام_ قد دعا ربه أن يكون له ناصر يشد أزره في سبيل الدعوة، ويكون له عونا على طاعته؛ فهذا يعني أننا نحن _سائر البشر_ أحوج وأشد إلحاحا إلى هذا المطلب؛ فباﻷخ الصالح والرفيق المؤمن يكون المرء أكثر ثباتًا وعزمًا في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، يقول الله تعالى حكاية عن نبيه موسى _عليه السلام_ : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) [سورة طه : 29_ 34]
إنّ الصحبة الطيبة والرفقة الصالحة طريق إلى تحقيق الألفة المجتمعية والمحبة الصادقة التي تجمع أبناء المجتمع المسلم، وفي السيرة النبوية نجد أن من أهم الأعمال التي قام بها الرسول _عليه الصلاة والسلام_ بعد هجرته إلى المدينة المنورة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كما نجد أنّ الرسول _صلى الله عليه وسلم_ يؤكد على أهمية اتخاذ الصديق الذي يقوى به إيمان الفرد ويعرف دينه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (الرجلُ على دين خليلِه، فلينظُر أحدُكم من يُخالِل)، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ** فكل قرين بالمقــارن يقتـــدي.
ويضع لنا الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ مقارنة رائعة وتشبيها غاية في الجمال بين الجليس الصالح وجليس السوء، وفي هذا ما يكفي أن تبين للمرء أهمية الصحبة الطيبة وخطورة رفقة السوء، فعن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنما مثلُ الجليس الصالِح وجليس السوء كحامِل المِسك ونافِخ الكِير؛ فحامِلُ المِسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجِد منه رِيحًا طيبة، ونافِخُ الكِير إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجِد منه ريحًا مُنتِنة). وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال: يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: (من ذكَّركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله) وورد عن الفاروق _ رضي الله عنه _ أنه قال: ((عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنّهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء))، كما ورد عن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ أنه قال: ((ثلاث مَن كنَّ فيه ملأ الله قلبَه إيماناً صحبة الفقيه، وتلاوة القرآن، والصيام)).
إنّ الصحبة الطيبة والرفقة الصالحة خير ما يستعين به المرء في أمور دينه ودنياه، ولعل الحاجة اليوم إلى الصحبة الطيبة والجليس الصالح أكثر إلحاحا وأعظم أهمية من أي وقت مضى؛ حيث الفتن الكثيرة كاﻷمواج المتلاطمة والمغريات العديدة والملهيات اللامتناهية التي أورثت كثيرًا من الناس الغفلة في قلوبهم، وما لم يكن للمرء من يذكره بربه ويحذره من مكائد الشيطان؛ فإنّ ذلك أدعى وأسرع للانزلاق في المعاصي واﻵثام، والمرء بلا ريب يقع صيدا سهلا في حبائل الشيطان إذا كان وحيدًا أو مع صحبة غير صالحة؛ إذ لا يجد حينها من يذكره بالله ويخوفه من عقابه؛ ولذا فإنّ الصديق الصالح الناصح نعمة عظيمة لا تقدر بثمن، ومن جمعته بأخيه محبة الله وتفرقا عليها أظلهما الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، وورد عن الفاروق عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ أنه قال: (( ما أعطي العبد بعد الإسلام نعمة.. خيراً من أخ صالح، فإذا وجد أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به))، وقال أيضًا : (( لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها، لولا أن أحمل أو أجهز جيشاً في سبيل الله، ولولا مكابدة الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتفي أطايب التمر.)) وجاء في وصية لقمان الحكيم لابنه أن اﻷخ الصادق والجليس الصالح هو أول ما يجب أن يتخذه المرء بعد إيمانه حيث يقول:(( يابني؛ ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان بالله أخاً صادقًا)).
ونحن عندما نتحدث عن الصحبة الطيبة وأثرها في سلوك الفرد وأهمية الصديق الوفي والجليس الصالح، فليس مجرد ألفاظ مجردة عن معانيها ومضامينها، فالصحبة الطيبة يجب أن تكون _كما أشرنا آنفًا_ عوناً للمرء في أمر دينه وسندًا في أمر دنياه، ومجردة من حب المصالح اﻵنية، ومكسبا لزيادة علمه ورقي أخلاقه، وفي سرائه وضرائه، وشدته ورخائه، إن رأوا منه عيبا ستروه، وإن رأوا منه خطأ نصحوه وأصلحوه، يصدقونه في النصح والقول بعيدًا عن المجاملات والتكلف؛ فخير الرفاق من تحابوا وتناصحوا، وإن غاب عنهم حفظوه في نفسه وأهله وماله، وإن احتاج إليهم أعانوه، وإن آساه الزمان آنسوه وواسوه، وإن أكرمته اﻷيام هنأوه، وإن أخطأ عليهم عذروه، وإن رحل عنهم ذكروه بدعائهم، وكانوا ﻷهل بيته عونًا وسندًا.
وعندما يعم المجتمع علاقات طيبة وصداقات حميمة وتعاون قائم على البر والتقوى وتآمر بالمعروف وتناهٍ عن المنكر؛ فإن ذلك بلا ريب سيعود نفعه على الفرد أولاً والمجتمع ثانياً، وكلما ترابط أبناء المجتمع ووطدوا علاقاتهم فيما بينهم؛ كان المجتمع قويا متماسكا صلب العود قوي الشكيمة شديد البأس دينيا واجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا وصحيا كذلك، فالدراسات الطبية المعنية بشأن سعادة الإنسان كلها تؤكد أن تمتع الإنسان بعلاقات طيبة وصداقات حميمة يعتبر مصدرًا مهمًا من مصادر السعادة الحقيقية، وكشفت إحدى الدراسات أنّ الصداقة الحقيقية تحقق السعادة بشكل أكبر مما تحققه العلاقات العائلية. وفي المقال القادم بإذن الله تعالى سوف نتحدث عن الآثار الوخيمة لرفقة السوء ... والله المستعان.
issa808@moe.om