سلطان بن خميس الخروصي
يبدو أنّ عالمنا العربي أضحى شغوفاً بحالة هستيرية للحديث عمَّا أنجزته (داعش) من وجهة نظر الموالين وما دمرته لدى النقيض منهم خلال الأربع والعشرين ساعة المنصرمة، وبدأنا نشهدُ أقلاماً يسيلُ مِدادُها تمجيداً لمُمارساتها من عُلماء ومُفكِّرين انجرفوا إلى مُستنقعات ضحَّلة ومُفترقات طُرقٍ مُظلمة، وبدأنا نرقُبُ أُدباء يُحسبون لرفيع الذوق اللغوي استمطرت قرائحهم للذَّودِ عن حِياض هذا المولود الجديد، بِتنا نرقبُ حِراكاً ثقافياً وأيديولوجياً مُريباً يزحفُ نحو تمجيد ما تقوم به -داعش- في ساحات العراق وبلاد الشام ليُتوَّج ذلك أخيراً بانضمام جماعات أخرى من دول وقارات عربية وإسلامية مختلفة تحت لوائها وليس ببعيدٍ عنّا جماعة (بوكو حرام) في نيجيريا والتي أذعنت تبعيتها للتنظيم ليأخذ بذلك الطابع الدولي، كما نسمع بين حينٍ وآخر أبواقاً في دول الخليج العربي تُروِّج لهذه الماركة الجديدة - إن صح التعبير- فتستهوي قلوب وعقول الشاب الخليجي الذي يشعر - بعضهم - بغياب مبدأ العدالة الاجتماعية؛ حيث هناك من يعيش في نعيمٍ ماديٍ مُترهِّل لكنه يقف على الرصيف في منظومة الإنتاج الفكري والتربوي وغياب الوعي السياسي، بينما تكتنفه الغصَّة على حاله المتلبِّد بالبؤس والبطالة وضبابية المستقبل ليرى فيها - أي داعش- خلاصاً له من نكده وتهميشه وكأنها ذلك الوحيُّ الذي طالما انتظره حيث (صكوك) الغفران والوعد بجنات عدن خالدة!.
بغض النظَّر عمَّا يُروَّج له حول ظهور هذا الفصيل العسكري بأنه لا يعدو سوى سرطان استعماري مُخطط له ومدروس بحرفية من قبل الأعداء التقليديين الذين يكيلون للعالم الإسلامي والعربي الدسائس والمؤامرات وكأنها بذلك تُكرِّسُ نظرية (صِدام الحضارات) حينما أعلنها الكاتب والصحفي الأمريكي "صامويل هنتجتون" بأن البقاء للأقوى وكأنه بذلك يُسقط نظام الغابة على طبيعة الحياة البشرية، لنرى دعما قوياً لها منذ الولوج العالمي في المستنقع الأفغاني في العام (2001) بأنها معركة البقاء بين الإسلام والغرب، فبدأت تطفو هذه الرؤية (السمجة) على ألسنة بعض رجالات السياسة وفقهاء الدين ورُهبان النصارى وحاخامات اليهود والمفكرين والكُتَّاب فتُشحذ بذلك أفئدة الشعوب بعضها على بعض ليهوي العالم نحو انهيار معايير العدالة الاجتماعية.
لا يمكن أن يغفل المتابع للأحداث المتلاحقة في العالم من صِراعاتٍ سياسية وتصفيات عِرقية ومذهبية تلك الأيادي الخفيَّة التي تغتال الأرواح والأموال؛ ففي كتاب "الرأسمالية تُجدد نفسها" نجد إشارة مهمة نحو معادلة مُلفتة تقوم على أساس أينما خُلقت الحروب والصراعات انتعشت مصانع الأسلحة فامتلأت جيوب السمارة وتُجَّار العتاد، وما يكتنف العالم الإسلامي والعربي في وقتنا الحاضر من فوضى عارمة مُتلوِّنة كالحرباء بمُسميات هُلامية تارة بأنها ثورة ومرة بأنها إصلاح وثالثة بأنها تسجيل موقف ديمقراطي ورابعة بأنه اعتصام دون أن يكون لأيٍّ منها خارطة طريق فهي فوضى ومشهدٌ غير حضاري تستنزف البشر والحجر والخاسر الأول والأخير فيها هي الأوطان.
يبدو وللوهلة الأولى أن ظهور تنظيم (داعش) في فترة وجيزة بهذه القوة والمِنعة وامتلاكه للعدَّة والعَتاد النوعي والكمِّي ليُقارع بها جيوش عديدة ويدكَّ معاقلها فيلتهم أقطاراً شاسعة على الميدان، وحصوله على قاعدة جماهيرية كبيرة تُشجِّعهُ وتُقدِّم له الغالي والنفيس لتحقيق نظريته الأيديولوجية التي تقوم على أن الإسلام على طريقتهم هو الدين السماوي الأوحد الذي (يجب) أن يشيع في كل ربوع المعمورة (قسراً) ليمارس بذلك سلوكيات وحشية ضد البشر والمعالم التاريخية والأثرية كل ذلك يُثير جُملة من التساؤلات التي يجب أن تُطرح بشفافية وبِقوة في مجالسنا وحواراتنا، فلماذا لم يستطع العالم حتى اللحظة بكل جحافله أن يئد هذا المولود (المشوَّه)؟، ثم لماذا لا تزال جموع من الشباب الذين هم في أوج الإنتاج والإبداع يتسابقون للانخراط في هذا التنظيم وإن كانت النهاية هي الموت؟!، ثم ما المبرر لأن ينجرف مجموعة من العلماء والمفكرين وبعض من كانت تحسبهم الجموع العربية رموز التجديد والتغيير في مثل هذه الجماعات بفتاوى تكفيرية أو أطروحات صحفية ونظريات بهلوانية؟، وأخيراً هل ظهور مثل هذه الأفكار والتكتلات الشبابية في الوطن العربي مؤشرٌ قوي نحو ضحالة التعليم وفشل الاستراتيجيات الوطنية التي ضُخَّت فيها أنهار متدفقة من أموال الشعوب في سبيل التجويد والتطوير؟.
يبدو من الضرورة أن تُعيد مؤسسات الدول العربية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الاعتبارية ترتيب البيت الداخلي وترميم ما عاف عليه الدهر وإعادة توجيه البوصلة من لغة السلاح كما تفعل بعض دول أوروبا والتي لا تزال تتطلع بشراهة للاستثمار العسكري والفكري في المنطقة، إلى لغة مراجعة الذات وتصحيح المسار، فلا يُمكن أن تستظل الشعوب بسماء البارود دون تطهير العقول وتحقيق التنمية المستدامة الحقيقية والعدالة الاجتماعية بين أفراد الشعب، من الضروري بمكان أن تُغرس سجايا المواطنة والمسؤولية في عقول وقلوب النشء بما يُحقق الإبداع والإنتاج بعيداً عن سماجة الدكتاتورية واستصغار عقولهم وجعل مستقبلهم ضبابيا مرهونا بمداد قلم (مزاجيّ) من مسؤول بعينه، نحن بحاجة إلى بناء مؤسسات عصرية تُطبِّقُ التجربة الديمقراطية بما يتناسب وطبيعة الحياة البشرية الكريمة، نحن بحاجة إلى إعادة الخِطاب الديني والسياسي ليحتضن مختلف الشرائح الدينية والمذهبية والعرقية والأحزاب والتكتلات، نحن بحاجة إلى عُلماء لا يُسرفون في الاجتهاد بفتاوى التكفير وإخراج الناس من المِلَّة أو استباحة دماء بعض الطوائف عن الأخرى، نحن بحاجة إلى إعادة برمجة تعليمنا ليغرس في النشء والشباب الفكر التنويري لسيرة نبي هذه الأمة المعتدلة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، نحن بحاجة إلى تشرُّب ثقافة احترام الآخر وغرس قيمة الإنتاج والإبداع والثراء الفكري والعلمي لنكون رقماً صعباً في عالم الكِبار.
لسنا بحاجة إلى إعلام مائع يبيع ويشتري ذمم الناس وقلوبهم الوجِلة باسم الوطن والحياضِ عنه بطُرقٍ مُلتوية وأساليب رخيصة، لسنا بحاجة إلى كاتب مأجور أو أديبٍ أو باحثٍ مسعورٍ بالفُحش حِيناً والغُلو أحياناً أخرى ليؤلِّب الجموع على مؤسسات الدولة في مُعادلة الخاسر منها هو الجميع، لا نحتاج إلى أن يتلهَّف شباب الأمة شوقاً نحو الحركات الظلامية مثل داعش وأخواتها وكأنها ذلك الوحيِّ المُنتظر الذي سيُخرجهم من الظلمات إلى النور!.
دمتم بود