متى نقول (لا) لأمريكا؟

علي بن مسعود المعشني

السياسة ليست كلها (نعم) بل هناك (لاءات) كذلك، فليس كل "نعم" بالضرورة تكون نافعة لي وليس كل "لا" كذلك تحمي مصالحي وتصونها وتعظم منها.

هكذا هي السياسة وديدنها وفرضياتها وقواعدها، ولكننا في أقطار الخليج اخترنا "النعم" المفتوحة والمطلقة والأبدية (شيك على بياض) لكل ما تفرضه وتمليه علينا أمريكا بزعم أننا "حلفاء" لها وأنّها "قوة كبرى" لا يُرد لها طلب.

يقول الأستاذ والمفكر العربي محمد حسنين هيكل: "إنّ الدولة التي لا تستطيع أن تقول "لا" في زمن ما وإزاء موقف ما لا تستحق أن تكون دولة". وكذلك يقول التاريخ وتقول السياسة والجغرافيا ولغة المصالح العارية المنزوعة من أيّ قيم وأخلاق.

لانحتاج نحن في أقطار الخليج إلى تذكير أنفسنا بأننا أقطار صغيرة وفتية وناشئة وأن أمريكا قوة عظمى ومهيمنة على العالم، فهذه من المسلمات التي لا جدال فيها ولكن ما نحتاجه هو الإدراك والوعي بأنّ صيغة التحالف شيء وصيغ التبعية والوصاية شيء آخر تمامًا، وأن علينا الاختيار بين أن نكون حلفاء لأمريكا وغيرها وفق شروط وثقافة وقواعد التحالف المتعارف عليها، أو أن نكون أتباعًا وتحت الوصاية نردد كلمة (آمين) بعد كل كلمة (ولا الضالين) تصدر عن واشنطن. وللتخفيف من حدة الحديث وعنف اللغة وبسط الأمر على الواقع وتبسيطه نقول: بأن أمريكا لها مصالح ونحن لنا مصالح كذلك، ومصالح أمريكا تنطلق من مرجعيات سياساتها وثقافتها التي لا تتفق دائمًا مع مرجعياتنا وثقافتنا كعرب ومُسلمين مهما انسلخنا أو سلختنا أمريكا قسرًا من هذا الواقع وتلك الثوابت، فإنّها في النهاية ومهما عظمت وقويت لا تستطيع حمايتنا من نقمات التاريخ وثأرات الجغرافيا على الإطلاق.

أمريكا قوة عظمى كما ذكرنا وسلمنا، ولكنها في المقابل ليست قضاءً وقدرًا، فأمريكا والغرب بعمومه ومن واقع التجربة لا يواجهون السيول الجارفة والمتمثلة في إرادات الشعوب والإرادات الصلبة للساسة الحلفاء أو الخصوم أو حتى التوابع ويفضلون التريث والترقب على ضفاف الوادي علَّ ذلك يشفع لهم لإعادة الكرة من النافذة ووصل ما انقطع، أو الحفاظ على ما تبقى من البيض في السلة.

في عام 1987م، وبعد عملية القرصنة وإرهاب الدولة التي قام بها كيان العدو على تونس، وقتل خلالها قادة وكوادر لمنظمة التحرير الفلسطينية في سيدي بوسعيد وحمامات الشط، استدعى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وزير خارجيته حينذاك الباجي قائد السبسي وكلفه بالسفر إلى نيويورك وطلب عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن وإدانة العملية الإجرامية، وفي نفس اللحظة استدعى السفير الأمريكي بتونس وقال له بالحرف الواحد: إذا استخدمت بلادك حق النقض ضد قرار الإدانة فعليكم إغلاق مكاتبكم ومغادرة تونس خلال 48 ساعة. (دامت المقابلة دقائق وخاطب السفير واقفًا ولم يسمح له بالجلوس)، وبالفعل صدر قرار الإدانة "الأول والأخير" من مجلس الأمن الدولي ضد العدو الصهيوني وامتنعت واشنطن عن التصويت.بكل تأكيد تونس ليست قوة نووية ولن تهدد مصالح أمريكا بالسياحة والزيتون وبضع تمر وسردين، ولكنها قوة الحق التي تفوق كل قوة. وهذا غيض من فيض أمثلة لا تحصى من مشارق الأرض ومغاربها، ولكن المثال التونسي أجلى وأمضى ككيان صغير لا يمتلك قواعد عسكرية ولا مصادر طاقة ولا نفوذ مالي ولا موقع جغرافي حيوي كأقطار الخليج العربية.

ليست العبرة من هذا استجلاب قرارات التنديد والشجب والاستنكار كما أدمنّا، بل العبرة في قول (لا) في وجوه الكبار في لحظة ما وإزاء موقف ما مهما عظمت المصالح ولاحت المخاطر.

الغريب في الأمر، أنّ الساسة الأمريكان أنفسهم في مجالسهم الخاصة وأحاديثهم الجانبية ومذكراتهم يسخرون ويتندرون من مواقف(اللا سياسة) لأقطار الخليج، والتي نعتبرها نحن في المقابل من لزوميات السياسة ومن ضريبة زبونيتنا السياسية و"حظوتنا" لدى أمريكا.

بفعل سياسة (اللا سياسة) قامرت بنا أمريكا في ربيعها المشؤوم وفوضتها الخلاقة في الوطن العربي، وجعلت منِّا جيشها الإنكشاري المعاصر، مهمتنا الذبح والنحر وسفك الدماء وتمزيق الأوطان وتشريد الشعوب العربية، ورعاية البؤس والفجيعة وترويجهما، ونصيب أمريكا والكيان الصهيوني الخراج والفوائد والمصالح، في سابقة تاريخية وسياسية لم يشهدها التاريخ في أيّ من مراحله.

واليوم مطلوب منِّا تمزيق اليمن وتشطيره ونقل السيناريو السوري بكامله إليه، وهذا الدور هو بمثابة تعليمات أمريكية جلية مضمونها: أديتم الواجب تجاهنا على أكمل وجه، فانحروا أنفسكم الآن، وشكر الله سعيكم والسلام!!.

أمريكا شيطان كبير لا يعرف الأخلاق ولا الصداقة، بل يعرف المصالح العارية المجردة من كل قيمة أخلاقية أو بعد سياسي أو قيمي، وأمريكا تقبلك بالصورة التي قدمت نفسك بها وسوقت نفسك للآخرين عليها. وبلا أدنى شك عندي، فإنها تُعد لملف (ويكيليكس) خطير ومن العيار الثقيل لأقطار الخليج، في زمن "الوئام والتحالف" المزعومين، لتفجيره في وجوههم في الوقت المناسب لانتفاء الحاجة إليهم وانتهاء صلاحياتهم "كحلفاء"، وبمجرد تغير قواعد اللعبة والاشتباكات السياسية في المنطقة وتوافق الكبار، ليقتص ويثأر من أراد من أقطار الخليج، من شعوب جوار وغيرهم وقوى دولية، وستدفع الشعوب والأوطان الثمن الباهظ لتلك الاستحقاقات المتراكمة من أزمنة الجدب السياسي والتنازلات المجانية والعطاءات الحاتمية لأمريكا خاصة والغرب بعمومه. فكل ما نحتاجه كشعوب في الخليج وفي هذا الظرف التاريخي بالتحديد، أن نكون دولًا تقول "لا" وتقول "نعم" فقط لاغير.

قبل اللقاء :" رجل الدولة هو إنسان بداخله وطن، والمواطن هو إنسان بداخل وطن" . والأوطان سفن بلا قوارب نجاة. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك