"جوناس".. مشهد لانتصار الرياضة!

حسين الغافري

لم يسلم أي مخلوق على هذه البسيطة من صفعات الزمن يوما من الأيام، لكن فقط الأقوياء من تميزوا وتمايزوا عن غيرهم بالإرادة والعزيمة قدراً تحصنوا بهما من الانجراف والانسياق وراء غياهب المجهول. ولم يثبطوا من هممهم، أو يركنوا إلى زوايا أسمنتية بحالات انطواء طغت على دواخلها الحزن والضيق والفزع، وإنّما تجاهلوا وبمحض إرادتهم وعزائمهم استنزاف الوقت في تحسس موضع الصفعة بأيديهم ونفوسهم وعقولهم، غير ملتفتين إن كان أحد قد شاهدهم وهم في تلك اللحظة المؤلمة عندما أسقطتهم الصفعة أرضاً.. أم لم يشاهدهم أحد!. أو الأحرى بأنهم ظهروا أو "تظاهروا" بمظهر القوة - في تلك اللحظات الصعبة- ليهيئوا لأنفسهم اللحظات المناسبة للملمة الجراح، والتفكير بخطوات ما بعد الصفعة. فالإرادة العظيمة والقوية لا تعني "الصلابة" بقدر ما تعني "الصلادة". يقول أحد الحكماء: "وجدت بعد تدبر أن الاستحالة نوعان.. استحالة قدرية كأن يصير الواحد أكثر من الاثنين، أو أن يجتمع الشمس والقمر في رابعة النهار .. واستحالة شرعية كأن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع من ذي الحجة، وما عدا ذلك فليس بمستحيل، فلو عزم أحدهم على نقل جبل لنقله". ويقول آخر: " إن مجرد التلفظ بكلمة إرادة يشحن المرء بقوة غير عادية".

استرجعت شريط الذكريات بأحاسيس تملؤها العاطفة القوية وأنا أتأمل أحد مشاريع الكفاح الكبير لحظة دخول الأرجنتيني "جوناس جوتيرز" لاعب نيوكاسل الإنكليزي ومنتخب الأرجنتين سابقاً أرضية الميدان بمباراة فريقه ضد مانشستر يونايتد الإنكليزي ضمن الجولة الثامنة والعشرين من الدوري الإنكليزي الممتاز، بعد غياب طويل جداً صارع فيه مرض السرطان وأبعده عن الملاعب منذ أكتوبر 2013م. كانت لحظة عاطفية بامتياز، يمكننا القول أنّ "الرياضة انتصرت فيها"، وأهداف الرياضة الفعلية تبلورت برمتها تلك اللحظات قبل مسائل الفوز والخسارة والمكاسب والتنافس .. وغيرها.

ولعل الفرنسي المسلم آريك أبيدال لاعب برشلونة السابق وموناكو وأولمبياكوس، أحد السبّاقين أيضاً في كفاحهم الطويل مع هذا المرض الخبيث. ابتعد وقتها أبيدال عن الملاعب لفتراتٍ طويلة، وصارع اللحظات الصعبة بإرادة كالجبال إلى أن انتصر عليه، وعاد مرةً أخرى ليمارس محبوبته .."الكرة"، في لحظة إنسانيّة سابقة اتسمت بمشاعر العاطفة لكل من كان حاضراً في المدرجات لحظة دخوله، وحتى الجمهور خلف الشاشات. ورسمت أجمل اللوحات، لم تقل عن لوحات بيكاسو في جماليتها، ولا عن قصص العظماء الفاتحين، والعلماء المفكرين، والبحارة مستكشفي ما وراء البحار، والرحالة المغامرين من وطت أقدامهم سوابق الأمكنة، ومسطرو ملامح الإرادة في ملاحم الكون، ومن تتغنى بهم وتزخر كتب التاريخ وتعجّ بهم مخطوطات المتاحف، ويَسّتشهد بهم الطامحين في كل آن وحين، ويسير على نهجهم السابقين، ويسترشد بأفعالهم اللاحقين.

لا تعني لحظات دخول جوناس جوتيرز، ولا الفرنسي أبيدال شيئاً بسيطاً نتعاطف معه لفترة زمنية بسيطة ومن ثم يتكفل التاريخ بحفظه لننساه بعد زمن، إنما هي لحظات دروس وعِبر نتفاخر بأن نستذكرها في كل لحظاتنا الحياتية، ونستلهمها في حديثنا اليومي. فالرياضة انتصرت بتلك اللحظات، ومن شاهدهما عليه الإيمان بأن الفرج لكل مشكلة - مهما عظمت- يمكن أن يبصر النور ولو بعد حين. الرياضة انتصرت وستنتصر، عندما نعنونها بالروح العالية الشاهقة والعزائم العاتية. الرياضة انتصرت وستنتصر، عند هكذا لحظات تاريخية تناظرها الأجيال المتعاقبة والحالية وتتعلم أصولها قبل عوالم الاحتراف والتجارة والمال، لتبقى هذه الأهداف رئيسية يجب أن ينتهجها اللاعبون في بث الروح الإيجابية لشخوصهم ولمشجعيهم. الرياضة انتصرت وستبقى منتصرة بعد كل مشهد يحاكي هكذا وقائع، ويبرز هكذا حالات .. كأبيدال الفرنسي وجوناس الأرجنتيني. الرياضة لا زالت منتصرة عندما تستمر مسلماتها الأصيلة في نشر التقارب والتآلف، وإيصال الرسائل الفاعلة النبيلة لكل الأفراد والشعوب. هكذا ننشد من الرياضة أصلاً .. ولنطالب بها هكذا.. لتبقى منتصرة.

تعليق عبر الفيس بوك