د. محمد بن حمد العريمي
كانت تلك هي المرّة الأولى التي ألتقي فيها (سلمان). كنت حينها في جلسة مسائيّة بأحد وديان الولاية مع أصدقاء طفولة ودراسة لم ألتقهم منذ سنوات عديدة بسبب مشاغل وهميّة نخترعها عندما لا نجد مبرّراً حقيقيّاً لأسباب تقصيرنا في تواصلنا مع الآخر برغم تهيؤ كافّة الظروف لذلك!! أمّا سبب وجود سلمان بيننا فهو رغبة أحد الحضور من الأصدقاء في أن نعيش أمسية مختلفة بتفاصيل تكاد تكون قد اختفت من واقعنا الحاليّ المعاش ابتداء من ارتشاف قهوة الزنجبيل ذات الرائحة الزّكيّة بصحبة تمر (أبو دعن) صلّاب الركب كما يطلق عليه في الولاية، وانتهاء بـ (الكافتة) وهي وجبة محلّيّة تشبه المكبوس وتعدّ بواسطة نوع من الأرز كان يكثر تناوله في جعلان قديماً، يسمى (الكراشي) نسبة إلى مدينة كراتشي الباكستانيّة.
من الوهلة الأولى لرؤيتي له توقعت أنّني سألتقي بشخصيّة استثنائيّة تختلف عن كثير من الشّخصيّات التي ألتقي بها وأتعامل معها يوميّاً في زحمة الحياة ولهث البحث عن جديدها. كان سلمان شابّاً عفويّاً بسيطاً من النّوع الذي تراه في الصّور التي تحويها كتب التاريخ عن عمانيّي زمان بسمار بشرتهم، وهيئتهم التي تدلّ على رجولة وصلابة وشموخ غير مستغرب، وملامحهم الجسديّة المتناسقة التي تكاد تقسم أنّها لا تحوي أيّ ملليجرام زائد من جرّاء تناول مأكولات دخيلة على المجتمع، وهو النّوع الذي يبدو أنّه سيندثر قريباً لو لم يبد الكثير من المقاومة بعد أن تغيّر الزّمان والمكان المحيطان به!!
عندما تحلّقنا بعد وجبة العشاء التّقليديّة الدّسمة التي أعدّها سلمان لنا لمناقشة بعض الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة التي يمرّ بها العالم، وبينما كان صوت كلّ منّا يرتفع بتأييد هذا الرأي أو معارضة ذاك، أو (التفلسف) بما يملك من معلومات تؤيّد طرحه، كان سلمان ينتحي في زاوية قصيّة من الجلسة كمستمع دون أن يحاول أن يفتي في ما نقول، أو أن يسعى لإثبات قدراته الثّقافيّة أو الحواريّة، وكأنّه يقول لنفسه: هل يعرف هؤلاء حقيقة ما يتحدّثون عنه!! فجلّ القضايا التي نناقشها ونشغل أنفسنا بها، وترتفع أصواتنا عالياً ونحن ندافع عنها قد لا تعنيه في شيء، فهو ربّما لم يسمع عن (داعش) يوماً سوى صدفة في نشرات الأخبار، ولا يهمّه إن كان ما يقومون به من ذبح وحرق هو حقيقة أم فوتوشوب، ولم يعنه يوماً واحداً إن كان ما يحدث في مصر ثورة أم انقلاب، أو إن كانت (الرّولة) و (الملح) خدش حياء أم خروج على تابوهات محرّمة! ولا يهتم بمن سيفوز بهذه البطولة أو تلك! وماذا سيفعل برشلونة أو الرّيال في المباراة القادمة، فكل هذه الأمور يعدّها متاهات قد لا تهمّه معرفة تفاصيلها في شيء، فلماذا يفكّر في الآخرين ما دام محتاجاً للتفكير في نفسه وأسباب معيشته أولاً!!
الحياة بالنّسبة لسلمان تعني قريته الصّغيرة، وجيرانه القريبين، وحيواناته التي يقوم بتربيتها والاهتمام بها وكأنّها جزء من أسرته، ما عدا ذلك فكلّ اهتمام بما لا يعتبره شيئاً مهمّاً بالنسبة له يعدّه تطفّلا غير مرغوب، وهي - أي حياته- تنتهي يوميّاً بعد صلاة العشاء بعد أن يكون قد أطعم أغنامه وآواهنّ إلى حظيرتهنّ، وبعد أن يتناول عشاءه المكوّن من مواد طبيعيّة غالباً كعادة بقيّة وجباته، ثم صلّى جماعة مع جيرانه وتبادل معهم باقتضاب آخر الأخبار المتعلّقة بقريتهم لا بغيرها من العالم، ثمّ يأوي إلى فراشه دون أن ينشغل حتّى الفجر بالكتابة في مواقع التّواصل الاجتماعي المختلفة عن الوجبة التي أكلها اليوم، أو عن الإبرة التي أعطيت له، أو صورته وهو في المقهى بينما مفتاح سيّارته الثّمينة، وهواتفه الثّلاثة، وكتاب فلسفيّ لم يقرأ حرفاً منه تملأ مساحة الطاولة التي يجلس عليها! أو الدّخول في نقاشات جدليّة عقيمة مع عشرات المجموعات في الواتساب، أو التّفكير فيما سيفعله برشلونة في مباراته القادمة!!
القرية بالنسبة لسلمان هي عطره المكوّن من امتزاج تربتها مع رائحة شجرها الذي يشمّه مع كلّ فجر يبزغ، ووطنه وعالمه الذي لا يعرف غيره، والذي يحرص على الحفاظ عليه مقاوماً كلّ حالات التغريب والتجريف الفكريّ في زحمة ما يسمّى بالتطوّر والتمدّن، وهو لا يغادرها سوى في عدّة حالات: يوم الجمعة عندما يستعدّ من الصّباح الباكر للذّهاب لتأدية صلاة الجمعة في إحدى القرى الكبيرة المجاورة مرتدياً أفضل ثيابه، ناثراً عليها عدّة رشّات من عطر اشتراه لهذا الغرض، أو عند الذّهاب إلى مركز الولاية من حين لآخر لبيع بعض أغنامه وشراء مستلزماته الشّخصيّة، أو عند حدوث أمر اجتماعيّ طارئ كعيادة مريض، أو تأدية واجب عزاء، وهو أمر لا تهاون فيه، فدونه قطع الرّقاب. سلمان لا يجيد استخدام البريد الإلكترونيّ، أو (الواتساب)، أو الرّسائل النّصّيّة، أو الاتّصال الهاتفيّ في تأدية واجباته الاجتماعيّة عبر جمل ورسائل مجاملة باردة لا تحمل دفء الصّدق والإحساس الحقيقيّ بالآخر، الحياة بالنسبة لسلمان هي الحقيقة والصدق وحده.
قد يعدّ البعض سلمان زائدة لا يحتاجها المجتمع المتمدّن، وقد ينظر البعض الآخر إلى تفاصيل حياته على أنّها ردّة وتخلّف، وقد يعتقدها آخرون أنّها من قصص الماضي التي سمعوها يوماً ما وانتهت مع آخر قصّة حكتها لهم جدّة راحلة، ولكنّ سلمان بالرغم من ذلك موجود يقاوم كلّ هذا. هو حارس أمين لبيئته، محافظ على وجوده ووجودها، منافح عن ثقافتها، يعيش حياته كما ينبغي أن يعيشها هو لا كما يريد الآخرين له أن يعيشها. هو رجل صادق مع نفسه والآخرين، لا يمارس هواية التّجمّل ولا التّلوّن. هو وجه آخر جميل من الوجوه التي تعيش في هذا الوطن.
Mh.oraimi@hotmail.com