زاهر بن حارث المحروقي
تعقيباً على مقالي الثلاثاء الماضي 24/2/2015، تحت عنوان "الحبة والقبة في تسريبات السيسي"، كتب الزميل الإعلامي "ضرغام أبو زيد" مقالاً في مدونته تحت عنوان "الرئيس السيسي بين الحبة والقبة.. وزلات اللسان"، ركّز فيه على زلات الألسنة وما تؤدي إليه من كوارث، خاصة إذا كانت هذه الزلات من رؤساء الدول، باعتبار أنّ كلامهم يجب أن يكون دبلوماسياً ومهذباً، فهو محسوب عليهم.
لقد كتب الكثيرون عن زلات ألسنة الحكام والدبلوماسيين، لأنّ زلة الإنسان العادي قد يتأثر بها القريبون منه فقط؛ عكس زلة لسان الحاكم التي قد يتأثر بها الشعب والدولة؛ ولكن هذه الزلات تطرح عدة أسئلة منها مثلاً، هل الزلة مجرد خطأ أم أنها تدلُّ على النية المبيتة سابقاً..؟ لقد رأى الكثيرون أنّ كلام الرئيس الأمريكي جورج بوش عن إعادة "الحروب الصليبية" أثناء حربه على أفغانستان، كان يفصح عن نيّة مبيتة ولم يكن مجرد زلة لسان؛ وهو الذي فعله فيما بعد عام 2003، باحتلاله العراق وتدميره وإعادته إلى الخلف أكثر من 100 عام.
إنّ ما فعله الرئيس بوش، هو نفسه الذي فعله فيما بعد البابا "بينيديكت السادس عشر" بابا الفاتيكان، حيث قال في محاضرة له في "جامعة بريجينسبرج" الألمانية بتاريخ 12 سبتمبر2006، عن كلام أحد الأمراء البيزنطيين في القرن الرابع عشر قوله "أرني ما هو الجديد الذي قدمه محمد..؟ إنّه قدّم كلّ ما هو شرير ولا إنساني، مثل دعوته لنشر الدين بالسيف"، فقد اقتبس البابا تلك الكلمات ووضعها في خطابه دون نَسْبِها إلى قائلها الحقيقي ودون أن يتحفظ على ما جاء فيها؛ فجاءت تلك الكلمات وكأنها كلماته، ممّا أثار ضجة كبرى في العالم الإسلامي، حتى صدر بيان رسمي من المقر البابوي يشرح الحقيقة، وما قيل عن كلام بوش عن إعادة الحروب الصليبية، هو نفسه الذي قيل فيما بعد عن البابا، بأنّ الكلام لم يكن مجرد زلة لسان، خاصة أنّ الرجل أضاف في محاضرته أنّ "فكرة الله في الإسلام لا ترتبط بأيِّ من أفكارنا ولا حتى بالمنطق"، وهو ما فسره البعض على أنّ الإسلام لا علاقةَ له بالمنطق.
يقول الأستاذ ضرغام أبو زيد في مقاله "إنّ ما ذكره المحروقي في مقاله عن تسريبات السيسي نراه واقعياً إلى حد بعيد؛ غير أنني أتناول هذا الأمر من زاوية أخرى، تلك هي قضية ومعضلة وكارثة (اللسان)، الذي هو كارثة الكوارث - إن لم نستطع السيطرة عليه وتحجيمه وتلجيمه كما ينبغي؛ أمّا إذا كان هذا اللسان خاصاً برئيس دولة - هي افتراضاً أكبر وأهم دولة عربية - وهي مصر؛ فإنّ الكوارث ستتساقط كمطر السوء؛ فالسيسي ربما لم يفطن إلى هذه المعضلة الكارثية المُسماة باللسان، وكيف أنّه من الممكن أن يضرم لظى حرب كحرب البسوس، أو كحرب داحس والغبراء؛ وكيف أنّه من الممكن أن يقتل ويسفك الدماء ويحرق الحرث والنسل، وكيف أنّه من الممكن أن يدمر كعاصفة أو كزلزال"، ويضيف، أنّ زاهر المحروقي اعتبر عبارة السيسي عن دول الخليج "الفلوس عندهم زي الرز" هي جملة صحيحة، إذِ الفلوس عند دول الخليج هي بالفعل كذلك، وأنّ هدف السيسي لتحصيل الأموال من العواصم الخليجية لا غبار عليه ما بقي الهدف هو مصلحة مصر، فهذا صحيحٌ أيضاً؛ إلا أنّ العبرة هنا - كما يرى أبو زيد - بـ "اللغة" وبـ"الكلمات" التي أضحت "لكمات" فيما بعد؛ "فإذا كان ما قاله السيسي - إن صح - صحيحٌ ولا غبار عليه؛ فإننا نقول إنه اختار الكلمات الخطأ في وصف هذا الصحيح، وإنّ لسانه لم يكن موفقاً بتاتاً، ونستطيع القول إنّ الرئيس السيسي هو أكثر الرؤساء المصريين ضعفاً في الفصاحة والبلاغة وفي العربية أيضاً؛ ويرى أبو زيد أنّ الذين استشاطوا غضباً في عواصم الخليج لهم مبررات كافية فعلاً، فليس كلّ ما يقوله اللسان يعني أن ينزل على الآخرين برداً وسلاماً كنار إبراهيم عليه السلام.
ويذكر في مقاله أنّه في السودان لهم تجارب أيضاً بشأن ألسنة الرؤساء؛ فالرئيسُ البشير فصيح وبليغ، غير أنّه وأحياناً، وفي خطبه الجماهيرية وغير المكتوبة ومن باب الحماسة وحدها، مع مطالبة الجماهير بالمزيد تحت صدى التهليل والتكبير؛ إذا به ينطق بكلمات ما كان ينبغي أن تقال، لأنّه رئيس دولة، فأيُّ حرف ينطق به يُحسب عليه أولاً، وعلى بلاده ثانياً، وعلى شعبه ثالثاً، والكثيرُ من المسؤولين السودانيين - كما كتب أبو زيد - لهم أيضاً عثراتهم اللسانية؛ فالدكتور نافع علي نافع، القيادي بالمؤتمر الوطني الحاكم ومساعد رئيس الجمهورية السابق، لديه زلّة لسان شهيرة؛ لا زال الناس يرددونها في السودان، وتلك هي الخاصة بـ"لحس الكوع"، وهكذا تبقى سقطات الرؤساء والمسؤولين اللسانية أفدح وأنكى من زلات غيرهم من الناس، والسبب هو أنّهم رؤساء وهذا ما يتعيّن على الرئيس السيسي أن يستوعبه بدقة؛ ويرى الأستاذ ضرغام أبو زيد أنّ مشكلة بعض الرؤساء العرب تكمن في ألسنتهم، إذ أنّ ألسنة هذا البعض تتصرف لوحدها وبدون استشارة العقل أولاً.
لقد ركّز ضرغام أبو زيد في مقاله عن زلات اللسان خاصة عند المسؤولين، وعموماً فأنا أرى هناك نوعان من الزلات؛ النوع الأول هو الطبيعي والتلقائي والذي لا يحمل أيَّ نيّة معه، أما النوع الثاني فهو الأخطر؛ إذ يُظهر النيات الحقيقية لأصحابها، والتي هي عكس الصورة التي يظهر بها الحكام عبر الشاشات وعبر الخطابات، والعرب قالت قديماً "المرء مخبوءٌ تحت لسانه"؛ ولكن يبقى علينا أن نفرِّق بين حديث خاص يدور بين أشخاص في جلسة خاصة - مهما كانت مستويات هؤلاء الناس- مثلما حدث مع السيسي؛ هذا إنْ كان التسريب صحيحاً وليس مفبركاً، وبين كلام يُقال رسمياً عبر وسائل الإعلام أو عبر الخطابات الرسمية، مثلما قال بوش عن إعادة الحروب الصليبية، ومثلما قال بابا الفاتيكان في محاضرة رسمية عن "ماذا قدم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم" فالأول لا يُعَوّل عليه بينما التعويل يكون على الثاني، وفي التسجيلات التي تمّ تسريبها عن السيسي- إن كانت صحيحة - فقد كان الحديث غير رسمي، وليس شرطاً أن يلتزم السيسي أو غيره بالفصاحة أو حتى باللباقة؛ ثمّ هناك نقطة أخرى هي استغلال الإعلام السيء لأيِّ حدثٍ، لمحاولة تشكيل وعي وتوجهات الناس، وصحيح أنّ هناك فئة - وهي كبيرة - تؤمن بأنّ كلّ ما يأتي من الإعلام هو صحيح ولا يطاله الشك؛ إلا أنّ الصحيح أيضاً هو أنّ الكثير من الناس أصبحوا واعين لتوجّهات وسائل الإعلام العربية، وأنّ السياسة هي التي توجه هذه الوسائل خاصة القنوات، ومن هنا فإنّ الكثير منها قد فقد المصداقية؛ لأنّها تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت؛ ولكنها لا تستطيع أن تخدع كلّ الناس كلّ الوقت.
Zahir679@gmail.com