ناصر أبو عون
مع إطلالة معارض الكتب الدولية في عواصمنا العربية سنويًا ينفتح الجرح الثقافي مع تجدد مشكلات صناعة الكتاب (بدايةً من ارتفاع سعره، وانحسار أعداد المؤلفين والباحثين، وانتهاءً بترويج وتسويق الكتاب)؛ بل نفاجأ بثلة من المثقفين تنكأ الجرح وتحشوه ملحًا، وتملأ الفضائيات وتسوّد صفحات الجرائد بآراء مثالية حول ضعف التمويل وتراجع نسبة دعم المؤسسات الحكومية والخاصة للكتاب، وينادون بضرورة إعادة النظر في (صناعة الكتاب العربي) وفق أنموذج العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا والتي تعتبره (صناعة قومية)، ومن أولويات (الخطط الخمسية والاستراتيجية للدولة)، مثلها مثل التسليح أو الأمن الغذائي وغيرهما من ملفات الأمن القومي للدولة. أما ما تنتجه (صناعة الكتاب)، فإنها أخطر ما تنتجه كل الصناعات بدون استثناء، ذلك لأنّ منتوجها لا يُسهم في الحركية الثقافية والاقتصادية، أو في تطوير المعارف ونموها وحسب، بل في توجيه المعارف والمعلومات التوجيه الذي يتماشى والهدف الذي يرسمه المؤلف أو مجموعة المؤلفين، أو هذا اللّوبي أو ذاك الذي يكتب له الكُتاب والموجّهون!!
وقبل الخوض في (إشكاليات صناعة الكتاب العربي) يجدر بنا هنا ومن قبيل الانطلاق من خلفية بحثية إثارة العديد من الأسئلة حول أزمة صناعة الكتاب العربي ومن أهمها: (هل هي أزمة توزيع؟ - حيث إن الكتاب يتواجد فقط داخل العواصم الكبرى لبلداننا العربية بينما يغيب كليًا عن بقية المحافظات والولايات والأقضية، وخاصة النائية منها، وذلك راجع لغياب المكتبات التجارية والأهلية ومحلات بيع الكتب - إلا أنّ المسجل منها في غرف الصناعة والتجارة العربية تحت مسمى (مكتبة) يركز على بيع القرطاسيات والأدوات المكتبية - مع ضعف أساليب وشبكات الدعاية والترويج، مما يحرم المواطنين والمقيمين من وصول الكتاب إليهم.!! أم هي أزمة (إنتاج)؟ نتيجة غلاء المواد الخام ومكونات صناعة الكتاب كالورق والأحبار، بالإضافة إلى عدم توفر الورق بأنواعه، وهي عوامل تجعل من الكتاب حلماً بعيد المنال وغير متاح للمواطن العادي، وينتج عنها بالضرورة حالة ركود أو ارتفاع أسعار.!! أم هي مشكلة تمويل؟ راجعة لعجز الكتّاب والمبدعين عن تحمّل التكاليف الباهظة لإنتاج كتبهم، في ظل عدم وجود مرونة كافية أمامهم من قِبَل دور النشر الخاصة والحكومية وتباطئها عن مساعدتهم أو تمويل كتبهم وأعمالهم وتسويقها وتوزيعها وبيعها.
ومن الحقائق المفجعة في هذا السياق يمكننا القول، بأن انعدام المبادرة الذاتية وتطوير البنية التحتية لطباعة الكتاب المستقل مرتبط في الظرف الحالي بضعف أو شبه انعدام دور النشر الأهلية التي تقدم خدمة للمؤلف بطبع كتبه باتفاق تسهيلي وضمان حقوقه. حتى أن أغلب الكتاب العرب مازالوا لا يعرفون شيئًا عن حقوق الملكية أو رقم (ردمك ISBN) العالمي الذي أصبح مشاعا وحافظا لحصانة المبدع من السرقة والمتاجرة والابتزاز.
وفي هذا المقام يتوجب عليّ إعادة تكرار حقيقة أشرتُ إليها في مقالة سابقة وهي أنّ المثقف العربي يعيش حالة (ترف فكري)، ويسجن نفسه في (أبراج عاجية)، ولا يريد الاعتراف بأن (البحث العلمي، وإصدار الكتب والصحف) تحولت منذ قرنين ونيف في الغرب من (خدمة حكومية) إلى (صناعة ربحية)، ومن (ترف وتحليق في المثالية) إلى (تجارة استثمارية)، وهي حقيقة تؤكدها الإحصاءات ففي الوقت الذي تصدر فيه المطابع العربية (كتابا واحدًا) لكل 12 ألف عربي، نجد في المقابل إنجلترا تصدر (كتابا واحدا) لكل 500 إنجليزي، وتطبع ألمانيا كتابًا واحدًا لكل 900 ألماني، وانتهت التقارير إلى أنّ العالم العربي يستخدم من 35- 40% في صناعة أوراق التواليت ومعلبات الوجبات الجاهزة والمفروشات وكثير من الصناعات الاستهلاكية ويأتي في ذيل قائمتها الكتاب واستيراد نحو 65% من الورق (سابق التصنيع) في واحدة من أهم الصناعات الثقافية والعلمية المرتبطة بالأمن القومي. بل إننا لا نزال بعيدين كل البُعد عن الحد الأدنى المقبول دوليًا، فمصر التي يقارب عدد سكانها (البالغ الآن نحو 95 مليون نسمة)، لا تنتج صناعة النشر فيها سوى الرّبع ممّا تنشره فرنسا مثلاً (59999 عنوانا سنة 2011).
وربما تكون الفرصة سانحة الآن- عربيًا - للتحول من مصطلح (خدمات ثقافية مجانية) إلى مصطلح (صناعات علمية وثقافية ربحية)، فكرًا وتطبيقًا، إنتاجا، وتسويقاً نظرًا لما تمثله من أهمية في زيادة إيرادات الدخل الوطني وأحد متاريس الأمن القومي العربي، والاهتمام بـ(المعرفة والبحث العلمي وصناعة الثقافة) والاتكاء عليها كصناعة استراتيجية بعد أن أصبحت تشكل ما بين (5 - 10%) من قيمة ما ينتجه العالم.
ولن ننجح في تخطي هذه الأزمة إلا بعد الانتهاء من إزالة آثار العديد من المعوقات التي وقفت حجر عثرة في سبيل بناء ثقافة عربية رصينة وصناعة كتاب مستندة إلى أساس صُلب من القيم العلمية والفنية والتجارية والتي من أهمها:
أولا - تؤكد الإحصاءات تراجعًا لدى الإنسان العربي دراماتيكيًا في الإقبال على القراءة بما يؤكد أن الوضع كارثي بالمقارنة مع نظيره الغربي حيث أظهر تقرير أصدرته مؤسسة الفكر العربي أن متوسط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنوياً بينما لا يتعدى المتوسط العربي 6 دقائق. وحسب إحصاءات منظمة اليونسكو، لا يتجاوز متوسط القراءة الحرة للطفل العربي بضع دقائق في السنة، مقابل 12 ألف دقيقة في العالم الغربي.
ثانياً - وعلى صعيد الكتب المترجمة المعطيات تؤكد التقارير والإحصاءات أن الدول العربية مجتمعة في أدنى القائمة، وبالمقارنة مع اليابان التي تترجم حوالي 30 مليون صفحة سنوياً فإنّ الصورة سوف تكون قاتمة لأن الأرقام لا تكذب وتؤكد أن ما يُترجمه العرب سنوياً حوالي خُمس ما يترجم في اليونان. والحصيلة الكلية لما تمت ترجمته إلى العربية منذ عصر المأمون إلى العصر الحالي 10.000 كتاب؛ وهي تساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة.
ثالثاً - تراجع الإقبال على الكتب الأكاديمية والدراسات والبحوث الجادة ومن خلال متابعتنا لأخبار معارض الكتاب في الدول العربية، فإنّ ترتيب الكتب الأكثر مبيعاً هي التالي: الكتب الدينية، تليها في القائمة كتب الطبخ، وكتب الأبراج وتمثل الكتب المنشورة في العلوم والمعارف المختلفة ما نسبته 15% بينما تصل نســبة الكتب المــنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات إلى 65%.
رابعا - تراجع في حركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية مما ينذر بحصار وانحسار اللغة العربية وتحولها إلى لغة متحفية في ظل اجتياح للغات الأجنبية وعلى رأسها الإنجليزية حيث تؤكد التقارير أن عدد الكتب التي تتم ترجمتها إلى العربية لا تتجاوز الثلاثمائة كتاب في السنة ومعظمها كتب أدبية وهي الأكثر رواجاً. في حين أن إسرائيل تترجم 3000 كتاب سنوياً، وروسيا المنهكة اقتصادياً تُترجم 40 ألف كتاب سنوياً أما أمريكا فلها النصيب الأكبر حيث تقوم بترجمة 10 آلاف كتاب ووثيقة في اليوم الواحد.
خامسًا - أصبح العالم العربي متخمًا بمؤلفات الأدب والرواية والقصة والمسرح والمذكرات واليوميات وتراجع التأليف العلمي البحت مما ينذر بوضع كارثي وتبعية طويلة الأمد للغرب المتقدم. وتؤكد الإحصاءات أنّ إنفاق الدول العربية (مجتمعة) على البحث العلمي وتطويره تقريبًا نصف ما تنفقه إسرائيل، على الرغم من أن الناتج القومي العربي يبلغ 11 ضعفا للناتج القومي في إسرائيل، والمساحة هي 649 ضعفا. وقد ارتفعت نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الصين مؤخرا إلى ما يقرب من 3% بالمائة من إجمالي الإنفاق القومي، حيث بلغت ميزانية الصين للبحث العلمي ما يقرب من 145 مليار دولار، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه هذه الميزانية 30 مليار دولار فقط. أما باقي دول العالم فلا يتجاوز إنفاقهم على البحث العلمي أكثر من 116 بليون دولار. وهذا المبلغ ليس للعرب فيه سوى 535 مليون دولار ، أي ما يساوي 11 في الألف من الدخل القومي لتلك البقية من العالم أما إسرائيل فقد أنفقت على البحث العلمي حوالي 9 مليارات دولار سنة 2008، وهو ما يوازي 4.7 بالمائة من إنتاجها القومي. و"تفيد المصادر بوجود حوالي 90 ألف عالم ومهندس في إسرائيل، يعملون في البحث العلمي وتصنيع التكنولوجيا المتقدمة، خاصة الإليكترونيات الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية. وتقدر تكلفة الباحث الواحد 162 ألف دولار في السنة (أي أكثر من أربعة أضعاف تكلفة الباحث العربي)".
ويمكن القفز على هذه الإشكاليات بوضع (قوانين إلزامية) كفيلة بالتغلّب على بعض المعوّقات الرئيسة (صناعيا واقتصاديا وسياسيا) للحد من تراجع صناعة الكتاب على الصعيد العربي وتنفيذ بعض الاقتراحات التي من أهمها:
1.إلزام الوزارات والهيئات الحكومية والمنظمات غير الحكومية في المساهمة المادية والمالية في صناعة الكتاب
2.إلزام إسهام أصحاب المال ورواد الأعمال والصناعيين وأصحاب الوكالات التجارية نقدا وعينا.
3.إلزام المؤسسات الصحفية والإعلامية بالمشاركة في طباعة وترويج وتسويق الكتاب.
4.استخدام الورق المتوسط الجودة في تقديم طبعات شعبية رخيصة الثمن للمؤلفات حتى تكون في متناول المواطن العادي.