عدونا المشترك

حاتم الطائي

نفتخر بأننا على الصعيد السياسي دولة بلا أعداء، استطاعت بسياستها الخارجية الحكيمة المستمدة من رؤى جلالته، أن تسطّر نهجًا خاصًا بها في الحياد الإيجابي؛ محتفظة بعلاقات طيّبة مع مختلف الأطياف والكتل المتناقضة والمتصارعة في محيطها الإقليمي، وفي الساحة الدولية بتوازن نادر ضمن مبدأ عدم التدخّل في سياسات الغير، وعدم القبول بتدخل الآخرين في شؤونها الداخلية. وقد أتاح ذلك للعمانيين خلال الأربعة العقود الأخيرة تكريس كل طاقاتهم لمعركة التنمية، وبناء الذات، مبتعدين عن الخلافات والفتن التي تقض مضاجع المنطقة العربية.

نعم؛ ليس لدينا أعداء في الخارج يتربّصون بنا الدوائر، ولكن ثمّة عدو يناصبنا عداءً مريرًا يكمن بين ظهرانينا في الداخل..

ما هو هذا العدو يا ترى؟

لقد أدّى التغيير السريع في نمط الحياة، والانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث وعصري إلى نشوء ثقافة استهلاكيّة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة، وتراجع النشاط البدني للأفراد مع انتشار السيّارات الخاصة أو الشخصيّة بشكل واسع، وهيمنة عادات غذائيّة جديدة؛ تتضمّن الوجبات السريعة والمشروبات الغازيّة التي أدّت إلى ظهور العدو المشترك للعمانيين وهي كتيبة أمراض العصر بقيادة داء السكري.

وإلى وقت قريب، لم تكن شائعة في مجتمعنا علل كأمراض الضغط والقلب وتصلب الشرايين، إلا أنّ هذه الأمراض أصبحت هي الآن الغالبة على خارطة الأمراض في عمان، ومن مسببات الوفاة الرئيسية، علاوة على أنّها تشكل عبئًا على موارد الدولة، وضغطًا على ميزانيّة الخدمات الصحيّة باعتبارها تستلزم علاجًا طويلا ورعاية نوعيّة..

ونعود إلى السكري، هذا القاتل الصامت الذي يتمدد وينتشر في المجتمع بمتوالية هندسيّة لا تعرف التوقف في ظل ازدياد الركون إلى نمط الحياة الاستهلاكي..

تزايدت معدلات ونسب الإصابة بالسكري في عمان ودول مجلس التعاون الخليجي لتصل إلى معدلات تتجاوز الـ 15% من السكان.

وهي نسب مقلقة لأنها تعكس انتشارًا للمرض غير مسبوق بين مختلف فئات المجتمع، كما أنّ من دواعي القلق أنّ هذا المرض يجعل الجسم فريسة لأمراض أخرى قاتلة تبدأ من القلب ولا تنتهي بالكبد..!

ورغم أنّ أسلوب الحياة مُتّهم رئيس في الإصابة بهذا الداء، إلا أن الأسباب الوراثية تلعب هي الأخرى دورًا في انتشار المرض وتكرار دورته بين الأجيال..

ومما يعزز دور العوامل الوراثية في ديمومة المرض زواج الأقارب؛ هذه الظاهرة التي تنتشر بين أبناء المجتمع العماني، لتلقي بظلالها على خارطة الأمراض وانتشارها في بلادنا متسببة في الكثير من الأمراض الوراثية ومنها أمراض الدم الوراثية.. وتلعب الجينات دورًا مهمًا في انتقال الأمراض الوراثية، فالإصابة بالنمط الثاني من السكري، يعكس استعدادًا جينيًا في استجابة الجسد لأعراض المرض..

وهذا العامل الوراثي حاسم في انتقال المرض بين الأجيال، مما يستلزم مضاعفة الجهود للحد من ظاهرة زواج الأقارب، والدعوة إلى الخروج من شرنقة القبيلة والمزيد من الانفتاح بين أفراد المجتمع..

وتتطلب الوقاية من أمراض العصر وفي مقدمتها السكري، تغيير أسلوب الحياة الاستهلاكي، والذي يعد مسؤولا رئيسيًا عن ازدياد الإصابة بالسكري.. ومن المفارقات الرئيسيّة في حياتنا اليوم أننا أصبحنا نستهلك كميات أكبر من الطعام، فيما تراجعت معدلات حركتنا ونشاطنا البدني..

فالفرد يحتاج في المتوسط إلى نحو 2500 سعرة حرارية؛ فيما يقوم الجسم بتخزين كل ما لم يتمكن من حرقه بشكل يومي؛ الأمر الذي يؤدي إلى تفشي ظاهرة البدانة في المجتمع، والتي بدورها تؤدي إلى الإصابة بالسكري وغيره من الأمراض نتيجة لتراكم الشحوم في الجسم وإعاقتها لفعاليّة الأعضاء مثل الكبد والطحال والبنكرياس. والمتأمل للنمط الغذائي العماني خلال السنوات الأخيرة يجد أنّه يعتمد بشكل كبير على استهلاك كميّات كبيرة من الكربوهيدرات المتمثلة في الأرز والخبز واللذين يحتويان على سعرات حراريّة عالية لاختلاطهما بالدهون واللحوم وغيرها من مستلزمات الطبخ؛ الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الوزن، لذا فإنّ معظم المصابين يكون وزنهم أعلى من المعدل الطبيعي، مع انتشار ظاهرة تراكم الشحوم حول منطقة البطن التي تزيد من فرص الإصابة بالسكري.

ومما يزيد من مخاطر ذلك اقترانه بقلة الحركة، وهي سمة أصبحت سائدة في المجتمع العماني وهي تؤدي بدورها إلى زيادة الوزن والإصابة بالسكري، فمن المعروف أنّ النشاط الجسماني يساعد على حرق السعرات الحرارية والاحتفاظ بالوزن المناسب للجسد.. ومع انتشار الوظائف المكتبية ووسائل الراحة المختلفة حيث ينتقل الموظف من البيت إلى المكتب بسيّارته الخاصة، ومن المكتب إلى البيت بالحد الأدنى من الحركة، ومع تزايد ضغوط ومتطلبات العمل والمناسبات الاجتماعية، يستصعب الكثيرون إيجاد وقت لممارسة الرياضة التي تساعد على توازن الجسم؛ الأمر الذي ينعكس سلبًا على وظائفه ويؤدي به شيئا فشيئا إلى الوقوع في براثن داء السكري.

ويهدد السكري مئات الآلاف من ربّات البيوت اللواتي اعتمدن بشكل كبير على عاملات المنازل، والركون إلى قلة الحركة، مما يقود إلى زيادة الوزن وبالمحصلة زيادة فرص الإصابة بداء السكري..

لقد أصبح السكري اليوم أكبر تحد للمنظومة الصحية في عمان، إلا أنّ الحد من انتشاره أمر ممكن ومتاح؛ وذلك من خلال تبني منظومة مختصة تهدف إلى الحد من تغلغل هذا الداء في الجسد العماني.. وهي منظومة تحتاج في تنفيذها إلى تضافر جهود الجميع.

من الأسرة والمدرسة والصحة والأندية الرياضية والإعلام لتنفيذ فعاليات مستمرة على مدار العام، وليست وقتية وظرفية كما يحدث حاليًا..

علينا أن نعد العدة لهزيمة عدونا المشترك..

تعليق عبر الفيس بوك