شبابنا والوعي الشقي

حاتم الطائي

لو طلب إليّ أن أشير إلى أم المشكلات التي يعاني منها شبابنا، لقلت بدون تردد: إنّها تكمن في الوعي الشقي.. والذي ينجم عن التناقض بين الوعي بماهية الشيء وبين ما هو كائن على أرض الواقع؛ فهو يقوم على الازدواجيّة والتناقض، ليحيل حياة الشباب إلى سلسلة من الفجوات التي تتوه في ثناياها تصوراتهم وأحلامهم، وترتطم بأرض واقع مغاير ارتطامًا ينتج عنه الشعور بصعوبة تحقيق المبتغى، فيتولد الشعور بالاغتراب وعدم الألفة بينه وبين الأشياء من حوله، وتتحول الوشائج إلى فجوات غير قابلة للتجسير..

يعاني شبابنا فجوات عدة، في المدرسة أو الجامعة، في بيئة العمل وحتى في البيت والمجتمع، هناك هوات وفجوات عميقة تحيط بشبابنا من الجيل الثالث مواليد التسعينيات، ويمكن رصد هذا الانفصام الذي يعبر عن نفسه في مختلف الوسائل التعبيرية؛ وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تضج بالمشاعر السلبية المختلفة، لتعكس حالة من حالات الوعي الشقي غير المنسجم مع إيقاع المجتمع؛ والذي يتّسم بأنه وعي ممزق ومنقسم على نفسه، تعتمل في داخله الحيرة وغياب الانسجام مع المحيط.

تصادم جلي وواضح بين ما يعتقد ويريد، وبين ما هو ماثل أمامه من مسلمات يطالبه المجتمع بالانصياع إلى مقتضياتها؛ بينما هو يبحث عن اعتراف المجتمع برؤيته وطريقة تفكيره، فهو في حالة بحث مستمر عن شكل من أشكال الاعتراف والتماثل مع المجتمع.. بحث محموم عن الهويّة والتطابق المستحيل في عالم غريب.

ومما يزيد من اتساع الفجوة الناتجة عن الوعي الشقي في نفوس الشباب، غياب التأطير الدقيق لمطلوباتهم، فهم يطالبون بالحريّة والكرامة وغيرها من مفاهيم، دون أن يضعوا تعريفًا للحريّة على سبيل المثال، فتظل حرية في المطلق، وهي بالطبع صعبة التحقق في مجتمع يحتكم إلى قوانين وأنظمة تنظم مفهوم الحرية، وتقيده لاستحالة إطلاقه، وهذا يولد في دواخل الجيل الثالث الشقاء لعدم تحقق المفاهيم والأهداف التي يرونها حقًا لهم، وواجبا ينبغي أن ينهض به المجتمع تجاههم، فيما يرى المجتمع ضرورة انصياعهم لنواميسه والانضباط بقوانينه.

يبحث شباب اليوم عن حياة منتجة وكريمة، دون أن يتوقفوا قليلا لإعطاء معنى محدد لكل مفردة، وما هي مرجعيتها وإطارها ومرادها.

وقطعًا ستذهب محاولاتك سدى، فيما لو حاولت إقناع بعضهم بأنّ الحياة المنتجة تأتي من خلال الانخراط في حياة العمل، فالصحفي عليه أن يكتب والمهندس عليه أن يبني، والأستاذ عليه أن يدرس ويعلم الأجيال.. أمّا الحياة الكريمة فهي التي حدد إطارها العام النظام الأساسي للدولة والقانون.

إنّ من المؤكد أنّ لكل عصر طرائقه وأساليبه التي تميّزه عن غيره، لذا قد نلتمس لشباب اليوم بعض العذر؛ فنحن نعيش اليوم في عصر السرعة الرهيبة على مستوى العالم أجمع، ويتطور المجتمع والعالم من حولنا بشكل سريع وغير مسبوق، وشبابنا كذلك يتقدمون بسرعة ويقفزون إلى المستقبل، وتتكون لديهم خبرات ومعارف مدهشة بفضل التكنولوجيا التي أصبحت متاحة بين أيديهم، وكل هذا قد يرسّخ بدواخلهم في أحيان كثيرة نوعًا من الثقة الزائدة، والتي يصاحبها أحيانا التعبير بصوتٍ عالٍ عمّا يرونه صوابا أو حقًا، وعندما يقابلهم المجتمع بالصدود ولا يجدون ذلك الاعتراف الذي يستحقونه يشعرون بالإحباط، وتتفاقم لديهم النزعة نحو العزلة، وعدم الثقة في عالم الكبار، لتتحول نظرتهم إلى هذا العالم باعتباره مقبرة لوأد طموحاتهم، وأصفادًا لتقييد أحلامهم ومنعها من الانطلاق صوب المستقبل.

لقد أصبحنا في عالمنا اليوم، محاطين بعالم افتراضي رديف؛ حيث أصبح الكل يفتي في كل شيء من الطقس وحتى الرياضة والفلك.. الجميع يحلل وينصّب نفسه حكماً على كل شيء، وعندما لا يجد أذانا صاغية يسكنه الإحباط، ويتملكه الشعور بالاستهداف، ونظرية المؤامرة؛ فينكفئ على وعيه الشقي محبطًا مهمومًا، متجاهلا حقيقة أنه لا بد للشاب الناجح أن يحدد أهدافه ليستطيع قياس نجاحه، لأنه وبدون تحديد الهدف يصبح كالهائم في الصحراء بلا وجهة محددة، ودون بوصلة تنقذه من الضياع.

إذن؛ نلمس اليوم مجموعة من الفجوات الماثلة في مجتمعنا، فجوة إعلاميّة، وأخرى تربوية، وثالثة اقتصادية واجتماعية وثقافية وحوارية وغيرها، نعايشها بشكل يومي في كل شيء تقريبًا في حياتنا وفي مختلف المواقع.

الفجوة الإعلامية نجدها في عزوف الشباب عن الإعلام التقليدي نحو الإعلام الجديد المختصر في 140 حرفًا على تويتر. مختصر إلى حد الاختزال ولا يشبع فضولا.

وفجوة تربوية بين المعلم والطالب؛ الذي يتعامل مع الكمبيوتر بلمسة سريعة ويرفض التلقين والحفظ. فيما علينا أن نعدهم لمستقبل مختلف تمامًا، بينما المعلم متمسّك بأطر ومناهج لا يستطيع أن يحيد عنها.

فجوة اقتصادية بين شباب يحلمون بالثراء السريع في مجال الأعمال، بينما ترتطم أحلامهم بمجموعات احتكارية كبرى تهيمن على عالم التجارة والأعمال؛ لا تسمح لهم بالاختراق..

وأرى أنّ من محاولات التجسير الناجحة، توجّه الحكومة للتركيز على ريادة الأعمال لبلورة حلول عملية للشباب من خلال المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي علاوة على كونها نشاطا اقتصاديا مهما وفعالا، تلبي حاجة في نفس الشباب تنزع إلى الاستقلالية وإثبات الذات وتتيح لهم تحقيق دخل غير مقيّد بسقف ثابت.

إذن يمكن الانطلاق من هذه الفكرة لتعميم نموذج للتجسير يقوم على مبدأ "ما لا يدرك جله لا يترك كله ". وتبني مبادرات للالتقاء في منتصف الطريق ضمن برامج وآليات تهدف إلى رسم خارطة طريق لهؤلاء الشباب، وفي ذات الوقت مواكبة التغيّرات السريعة التي تحدث في عالمنا المعاصر؛ مِمّا يمكننا من ردم الفجوات الموجودة في نفوس الشباب تجاه المجتمع؛ ولخلق التقارب بين الأجيال، وإيجاد مساحة التقاء مشتركة معهم حتى يتمكنوا من تجاوز حالة الاحتقان والإحباط إلى طور الاندماج البنّاء، الذي يعزز ولاءهم لقيم مجتمعهم.

نحتاح اليوم إلى جسور مختلفة لزيادة الروابط وتعميق التواصل لاستبدال الوعي الشقي بوعي جديد، يذخر بالإيجابيّة والأمل؛ وهي ليست بالمهمة السهلة لكنّها بالمقابل ليست مستحيلة، بل ممكنة التحقيق بالإرادة والتخطيط السليم والعمل المشترك بروح وثّابة يملؤها العزم لتعزيز نهضة عمان.

تعليق عبر الفيس بوك