نهج الريادة

حاتم الطائي

نستطيع الجزم بأنّ ندوة سيح الشامخات، نجحت في توسيع دائرة الاهتمام بريادة الأعمال، وأسهمت في تعميق المعرفة بثقافة العمل الحر، بل وتمكّنت من نقل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من ذيل الاهتمامات، إلى صدارة المشهد الاقتصادي، وجعلتها تحت دائرة الأضواء الكاشفة..

لقد ترتب على القرارات التي أسفرت عنها ندوة سيح الشامخات، انعطافة تاريخية في مسيرة تطوير القطاع الخاص العماني بالتركيز على تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومثلت هذه القرارات أرضيّة صلبة لانطلاق هذا القطاع صوب المستقبل وفق خطط مدروسة، وعلى أسس منهجيّة في ظل أجواء داعمة، وبيئة محفّزة له لارتياد آفاق واعدة تلامس الطموحات الكبيرة المعقودة عليه لقيادة دفة الاقتصاد الوطني في المرحلة المُقبلة صوب مرافئ التنويع والاستدامة..

لقد جاءت الأوامر السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم لإقامة ندوة لتقييم تنفيذ قرارات ندوة سيح الشامخات، اتساقا مع الاهتمام السامي بهذا القطاع، وتلمس كل السبل الكفيلة بدعمه لكي يتبوأ ما يستحقه من مكانة مرموقة في المنظومة الاقتصادية لبلادنا.

لقد سنّت القيادة الحكيمة بالتوجيه بإقامة ندوة تقييم تنفيذ قرارات سيح الشامخات، سُنّة حسنة ينبغي العمل على تعميمها للتأكد من تطبيق كافة القرارات المُتخذة بجميع المجالات، باعتبار أنّ القرارات والخطط، لا تتخذ أو توضع كغاية في حد ذاتها، بل يستهدف تنفيذها لتحقيق أهداف وغايات معينة، مما يتطلب إيجاد وسائل لقياس مدى تطبيق هذه الاستراتيجيات وتحقيقها للأهداف المنشودة..

كما أنّه قد تكون هناك خطط جميلة ورائعة على الورق، لكنّها لا تصمد أمام الواقع، ولا تثبت عند محك التطبيق العملي.. ومن هنا تأتي أهميّة فكرة التقييم والمراجعة بغيّة تهيئة الأجواء لانطلاقة أكبر.

لقد كانت ندوة تقييم تنفيذ قرارات ندوة سيح الشامخات، التي عقدت الأسبوع المنصرم، فرصة لحوار مجتمعي واسع، بمشاركة مختلف الأطراف ذات الصلة بهذا القطاع الحيوي.. حوار سجل فيه رواد الأعمال حضورًا لافتًا للتعبير بحريّة وأريحيّة عمّا يعترض طريقهم من تحديات تستوجب التذليل لمواصلة مسارهم في مضمار العمل الحر..

ولقد رسمت الندوة مسارًا مستقبليًا واعدًا بتبنيها حزمة من الإجراءات الداعمة لقرارات ندوة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي عقدت قبل عامين في سيح الشامخات..

لقد أرست ندوة تقييم تنفيذ قرارات سيح الشامخات مفهومًا جديدًا في ما يتعلق بمتابعة التنفيذ، وقد تكشف أنّه تمّ تحقيق الكثير مما تمّ اتخاذه في الندوة الأم من قرارات، إلا أنه يبقى الكثير من العمل أيضًا لتعزيز نتائج التطبيق على أرض الواقع العملي..

ولا شكّ أنّ المُباركة السامية لما تمخض عن الندوة الثانية من إجراءات؛ يعد أبرز دافع لتكريس الجهود لتنفيذ هذه الإجراءات التي جاءت كخلاصة لأهم النقاشات، وثمرة لحوار مجتمعي معمّق حول شؤون هذا القطاع الحيوي الذي يعوّل عليه كثيرًا لرفد الاقتصاد الوطني بمحاور ارتكاز جديدة للتنويع بما يقلل من الاعتمادية العالية على النفط الذي تشهد أسعاره حاليًا تدنيًا ملحوظًا..

إنّ حزمة الإجراءات التي أسفرت عنها ندوة التقييم، تشكل قوة دفع مهمة لهذا القطاع لتحقيق أهدافه وبلوغ غاياته..

ففي مجال تهيئة وتحسين البيئة التشريعية، تضمّنت الإجراءات إصدار قانون لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لتوفير الحماية القانونيّة التي تكفل لها النمو والارتقاء..

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شملت مجالا في غاية الأهمية لنمو وتطور هذا القطاع، وهو يتعلق بقطاع المناقصات الحكومية، والذي تمر عبره كل المشاريع الكبيرة، حيث إنّ ضمان حصة في هذه المشاريع للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة سيسهم قطعًا في تطويرها ومقابلة الطموحات الكبيرة لرواد الأعمال القائمين عليها، ويمكن تفعيل هذا الجانب بعدد من الضوابط ومنها تحديد قائمة مشتريات ومناقصات كل جهة حكومية وكل شركة مملوكة بالكامل للحكومة يكون إسنادها حصراً للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحديد موعد محدد للشروع في تنفيذ ذلك وهو النصف الثاني من العام الجاري، وإلزام الشركات المنفّذة للمشاريع الحكوميّة بتضمين كشوفات تفصيلية بالأعمال المسندة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة مع تحديد قيمتها، على أن يتم تطبيق هذا الإجراء بداية العام المقبل، إضافة إلى تخصيص قسم في كل جهة حكومية لمتابعة تنفيذ قرار تخصيص نسبة 10 بالمائة من المشتريات والمناقصات الحكومية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومتابعة تسريع الدفعات المالية المستحقة لها قبل نهاية النصف الأول من العام الحالي.

ويمكن قراءة ذلك مقرونًا بالإجراء اللاحق والمتعلّق بضمان دفع مستحقات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، من خلال إلزام الجهات الحكومية بصرف هذه المستحقات خلال مدة محددة لا تتجاوز أياما، إضافة إلى فتح مكتب مشترك في الهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من ممثلي الجهات المعنية لمتابعة صرف الدفعات المالية المتأخرة في السداد للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويمثل هذا دافعًا مهمًا لتطور هذا القطاع؛ لأننا نعلم عن صعوبة توفر السيولة في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي قد تعيقها عن التقدم والنمو، لذا يشكل تسريع دفع المستحقات إضافة مهمّة لهؤلاء الرواد.

واستجابة لمطالب العديد من الرواد بتيسير شروط التعمين، تمّ اعتماد شروط ميسرة لتنفيذ نسب التعمين بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يملكها ويتفرّغ لإدارتها عمانيون، في إطار لوائح وضوابط تحددها جهة الاختصاص، وهي وزارة القوى العاملة بالتنسيق مع الهيئة العامة لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ولقد اتّسمت هذه الضوابط بالمرونة التي تراعي أوضاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البدايات، حيث تمّ في هذا الصدد استثناؤها من نسب التعمين في العامين الأولين؛ علاوة على التدرج في تنفيذ إجراءات التعمين خلال أربع سنوات بالنسبة للمؤسسات الصغيرة القائمة وإدراج الوظائف المؤقتة ضمن نسب التعمين المقررة لها.

ومن الإجراءات البارزة للندوة؛ السماح لموظفي الجهات الحكوميّة بالحصول على إجازة تفرّغ لمدة لا تتجاوز أربع سنوات بدون راتب لإدارة مؤسساتهم وفق ضوابط تحددها وزارة الخدمة المدنية وتعتمد من مجلس الوزراء.

واعتقد أنّ التفرّغ لإدارة المشاريع من الأهمية بمكان، ولابد من التركيز على هذه القضيّة باعتبار أنّ تفرّغ رائد الأعمال لنشاطه التجاري أو مشروعه شرط ضروري لنجاح هذا المشروع. ناهيك عن أنّ غياب التفرّغ يتيح للتجارة المستترة لأن تطل برأسها، وكلّنا ندرك ما تجسّده هذه التجارة من إنهاك للاقتصاد الوطني..

وفي إطار التحفيز المنهجي للقطاع، جاء قرار الندوة بتخصيص نسبة من الأراضي المخططة للاستخدام التجاري والصناعي والزراعي والسياحي بحق الانتفاع لأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في كل مخططات محافظات السلطنة.

ولا شك أنّ الأذرع الحكومية الممثلة بالهيئة العامة للمؤسسات الصغيرة وصندوق الرفد، تقوم بدور رئيسي وهام في توفير البيئة المحفزة لجيل الرواد للانخراط في العمل الحر..

وقد شهدنا خلال الأعوام الأخيرة تطورًا كميًا ونوعيًا لهذا القطاع الذي يوفر لأبنائنا فرص عمل جيّدة وحياة كريمة..

ويبقى التأكيد على دور المواطن في دعم الرواد من خلال الإقبال على المنتج الوطني..

كما أنه ينبغي إعطاء أولويّة لهذا القطاع في الاستراتيجيّات الحكوميّة المستقبلية مثل استراتيجية جعل عمان مركزًا لوجستيًا في المنطقة، ومشروع المدينة الطبية، ومنطقة الدقم الاقتصادية ومشروع القطار ومركز المؤتمرات والمعارض، فهذه مشاريع مستقبليّة واعدة سترى النور خلال الأعوام المقبلة، وينبغي العمل من الآن لتحديد دور المؤسسات الصغيرة فيها، وربط القطاع بهذه الخطط والاستراتيجيات وإعداده لذلك؛ لأنها ستخلق وظائف جديدة والأولى أن تذهب لأبناء الوطن.

كما أنّ علينا النظر إلى العديد من الفرص الواعدة على نطاق دول مجلس التعاون، والتي يمكن للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الاستفادة منها عبر الاتفاقيّات المعتمدة، والتي تنظم التعاون الخليجي المشترك في مختلف المجالات.. وهذه فرصة لشبابنا من رواد الأعمال إلى الانطلاق في فضاءات العمل الخليجي واقتناص الفرص التي تزيد كفاءتهم وتدعم خبراتهم.

كما لابد لنا من ربط المؤسسات الصغيرة بالقطاعات الإنتاجية، ومنها الصناعي؛ لأنّ قطاع الخدمات - والذي تركّز عليه المؤسسات الصغيرة حاليا - أكثر عرضة للهزّات الاقتصادية، في الوقت الذي يتسم فيه القطاع الإنتاجي بالقدرة على امتصاص الصدمات لاعتماده على الإنتاج والاقتصاد الحقيقي، وهو ما نحن بحاجة ماسة إليه في إطار التنويع الاقتصادي..

كما علينا التخطيط المسبق للأعمال والمشاريع التي نريد أن تنهض بها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، من خلال تحديد المجالات التي نحتاجها ونريد دعمها وتقويتها وتقديم دراسات جدوى لها وتعيين الشركاء لها..

وهذا في نظري أجدى من أن ننتظر الشباب ليأتوا بأفكار المشروعات والتي غالبا ما تكون مكررة ومحصورة في قطاعات بعينها، وهذا يتطلب توجيه مشاريع ريادة الأعمال نحو القطاعات الواعدة كالسياحة مثلاً أو الخدمات اللوجستية أو أمن المعلومات الذي تسيطر عليه حاليا العمالة الوافدة بشكل كبير. وغير ذلك مما يراه الاقتصاديون والمخططون الاستراتيجيون من قطاعات.

والخلاصة؛ أنّ نهج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يسهم في تعزيز الاستقرار عبر خلق الوظائف، ويدعم النماء والاستدامة.

تعليق عبر الفيس بوك