تحصين الهويّة الوطنيّة للشباب

الشباب.. نصف الحاضر وكلُّ المستقبل؛ على سواعدهم تقوم نهضة الأمم، وبأفكارهم تتطور وتنمو وتزدهر، إنهم ثروة المجتمع الغالية.. وذخرها الثمين، ومن هذا المنطلق تبرز الحاجة إلى حمايتهم وتحصينهم من شتى ألوان الانحراف؛ وتتبع مسبباته ومصادره، والوقاية منه؛ خاصة في زمن الافتتان بالتطرف لدى شباب فقدوا البوصلة تحت قصف "العولمة" ورغبة في إثبات الذات بطريقة أو بأخرى.

ولا نقصد بالتحصين هنا مدلوله اللغوي القائم على المنع والكف، وإنما نرمي إلى تربية الأجيال، وإعداد الناشئة وتوجيه أفكارهم بطريقة إيجابية؛ ليكونوا بذلك مواكبين لكل جديد مثمر مفيد؛ مع الاحتفاظ بروح الأصالة والثبات على المبادئ المستمدة من ديننا السمح المعتدل، وتقاليدنا العمانية الراسخة القائمة على ثلاثية "المعرفة ثمّ التعارف مع الآخر والاعتراف به".

إنّ واقع مجتمعنا العربي -اليوم- يقتضِي تغذية المناعة، وتحصين الأجيال لصد أخطار حقيقية تحدق بالفِكر والسلوك؛ ويتطلب ذلك من القائمين على المحاضن التربويةِ تقييم المسار لصناعة الشخصية السويّة، وفق أسس ورؤى علمية وعملية تراعي الاحتياجات الآنيّة والمتطلبات على المديين القصير والبعيد؛ لأنّ أي خلل يصيب الشباب (سلوكا أو فكرًا) يتجاوز ضرره الفرد إلى المجتمع كله.

ولا يخفى ما يحيط بمنطقتنا من أفكار هدامة تقوم على الغلو والتّطرف في تسييس الدِّين بصور وملامح شتّى، وهو توجه من أخطر الظواهر المدمرة التي طفت على الساحة العربية قديماً وحديثاً، لا سيما في أوساط بعض الشباب المغرر بهم ممن وقعوا ضحايا لأجندات دولية وإقليمية، ولو وجد هؤلاء الشباب البيئة الصحية والحياة الكريمة لما توجهوا إلى الإرهاب؛ وهو الأمر الذي يستدعي تبني برامج إصلاحية، تقوم على العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد بكل شفافية، ودون مواربة.

فالتجارب من حولنا تؤكد أنّ الشباب المحبط اليائس من الإصلاح أو الحصول على فرصة عمل وحياة كريمة يسهل خداعه، والإيقاع به في شرك التطرف والجماعات الإرهابية، بل أحيانا هو من يقدم على ذلك من تلقاء نفسه؛ ظنّا منه أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول على حياة أفضل.

وقد شكلت ظاهرة العنف وما زالت "الظل الأسود" الذي يلازم البشرية ويؤرقها، فعلى الرغم من الآمال التي علقتها الإنسانية على الدور المتعاظم للتقدم الإنساني بجوانبه المختلفة في قهر هذه الظاهرة وتبديدها، وعلى الرغم من تعاظم القيم الإنسانية التي تصبو إلى العدالة والحرية والمساواة والسلام، إلا أنّ العنف ما زال يطرح نفسه بظله الثقيل؛ ليبدد كل آمال وطموحات البشرية، ويضرب وجودها بإحكام؛ عبر استهداف التنوع الجغرافي والثقافي والديني. وعلى ذلك فإنّ الشباب إن لم ينشغل في مشروعات العطاء والإنتاج المثمر؛ نهبته الأفكار الطائشة، وعاش في دوامة من الترهات والمهازل والعبثية؛ فشغل الأوقات وشحنها بالأعمال والواجبات، والانتقال من عمل إلى عمل، ومن مهمة إلى مهمة، ولو كانت خفيفة؛ يحمي المرء من علل الفراغ؛ والنفس ــ كما قال الإمام الشافعي رحمه الله ــ : إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل؛ وهو ما ينطبق بشكل دقيق على شريحة الشباب.

اليوم.. وليس الغد نحن في أمس الحاجة إلى برامج فاعلة؛ من شأنها تسليح شبابنا بروح الإيجابية، والبعد عن الوقوع في براثن السلبية؛ وثقافة الشكوى والجحود؛ فطريق الانجراف يبدأ من النظر بعين الشك لكل ما حولنا من إنجازات وحقائق، فكلما تناهى إلى أسماع البعض خبر عن منجز تنموي أو حضاري، إلا وتكالبت عليه سهام النقد من قبل بعض الشباب؛ حتى قبل إدراك أبعاد هذا الإنجاز؛ مما يعكس قصورًا وخللا في بنيّة الفهم السليم والذي يربأ بالإنسان عن أن ينتهج النقد لمجرد النقد.

والانتقاص من جهود الآخرين لمجرد الإعلان عن نفسه حتى وإن كان ذلك بصورة سلبيّة!

وبالتوازي مع تعزيز الروح الإيجابية في تعاطينا مع الأمور تأتي أهمية تعزيز الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن، وتعزيز مقدراته وإمكانيّاته؛ وهي بذلك - أي المسؤولية - الحامي الأمين للمكتسبات الحضارية؛ وعندما تتراجع هذه القيمة الفريدة وتغيب البوصلة يكون الناتج سلبيًا حيث تتصاعد سلوكيات اللامبالاة، وتكثر التعديات بحق الوطن واللامسؤولية والشحن، مما يقود في خاتمة المطاف إلى فوضى مدمرة.

ولا يمكن في هذا الصدد إغفال أهمية حماية أبنائنا من الاغتراب والخضوع لأشكال من الصراع المتعدد الوجوه بينهم؛ كجيل جديد بثقافتهم الجديدة إلى حدٍ ما والمغايرة لثقافة الآباء مع المجتمع بمؤسساته المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى التمرد على سلطة الأسرة وضوابط المدرسة والجامعة؛ وفي المقابل يحاول المجتمع إثناء الشباب عن هذه الممارسات وإخضاعه لثقافته وضوابطه الاجتماعية؛ وبين هذا المد وذاك الجزر تظهر ملامح الاغتراب في سلوكيات الشباب.

وبإيمان عميق؛ أدرك أنّ الشباب يستطيع بما يمتلك من إمكانات وطاقات الحياة، ونعمة الإصغاء إلى الآخر ونصائحه المستمرة "غير الوصائية" وبشيء من التنوير والاستنارة قادر على المشاركة الإيجابية في أداء الوظائف والأعمال؛ التي يمكن أن يسندها المجتمع إليه؛ وهنا فإنّ الضرورة تحتم صياغة برامج تربويّة اجتماعية؛ تهدف إلى الحد من أي صور تفتح الباب أمام سيادة مشاعر الضياع وعدم الانتماء واللامبالاة لدى الشباب.

ومن ثمّ؛ لا بد من توحيد الجهود التوعوية والتربوية لتعزيز فكر الوسطيّة والاعتدال، والتسامح بصياغة استراتيجيّة كاملة بأهداف واضحة وخارطة طريق وبرنامج عمل تنفيذي؛ لتتحقق الأهداف إلى واقع ملموس في بناء حياة كريمة ومنتجة لشبابنا.

مع تعزيز دور الإعلام ليؤدي دوره في دعم الحوار، وحق الاختلاف بين مكوّنات المجتمع التي يمثل تنوعها الفكري والثقافي والأيديولوجي أحد أهم عناصر القوة في المجتمعات المتحضرة، والسعي بجدية لتجسير الفجوة بين الواقع والعالم الافتراضي؛ كإحدى تبعات العولمة الثقيلة، التي لا يمكن تجاوزها بسهولة.

إننا بحاجة إلى إستراتيجية وطنية للشباب تقوم في مجملها على تنفيذ عدة أهداف منها إبراز منهج الوسطيّة والاعتدال في الإسلام، وبيان موقفه من الغلو والتطرّف، وتبصير الشباب بأخطار الإرهاب وأضراره، وبدورهم في التصدي له. ووضع آليات لتعزيز روح الانتماء الوطني لدى الشباب. وتفعيل دور المؤسسات التربويّة والمجتمعيّة والأسرة والإعلام في تحصين الشباب.

تعليق عبر الفيس بوك