تحديات الدولة الوطنية

حاتم الطائي

"ريحٌ عاصف" تحيط بسفينة أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج، ورائحة الموت تفوح من أقطار عدة، وكلما خبت وجدت من يزيدها سعيرًا، فالمنطقة تشهد اقتتالا وصراعات بصورة غير مسبوقة لكن الجديد هذه المرة أنّ هذا الكم الهائل من الدمار والخراب ونسف القيم والأعراف والإبادة الممنهجة للشعوب، يتم بأيدي أبناء المنطقة التي أعيت الغزاة والمستعمرين على مدار عقود، وخرجوا منها مهزومين، يجرون أذيال الخيبة والحسرة، لكن على ما يبدو أننا وبعد طرد الاستعمار السكاني خلدنا إلى سبات عميق؛ بينما بقى الطرف الآخر يقظًا، يدرس ويحلل من أجل فهم سيكولوجية الإنسان العربي، ووضعوا أيديهم على مواطن الداء، التي من خلالها نفذوا إلى المنطقة مرة أخرى دون أن يخسروا جنودًا أو معدات عسكريّة.

المخطط ليس مفاجأة وملامحه معلنة ومنشورة منذ سنوات طويلة، تحت عنوان "نظرية الفوضى الخلاقة" التي تكتسح البيئة السياسية في دول كبرى، وتؤمن بأنّ "الفوضى تخلق النظام من جديد"؛ لذلك تمّ طرح فكرة الفوضى الخلاقة منذ زمن لتغيير المسار السياسي في الشرق الأوسط؛ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بهدف تمكين إسرائيل من السيطرة على المنطقة سياسياً واقتصادياً بشكل كامل.

يحدث هذا بينما تتوجه الولايات المتحدة الأمريكية مطمئنة بمصالحها الاستراتيجية من الشرق الأوسط إلى غرب آسيا حيث التنين الصيني ينتظر الفرصة هناك ليحكم قبضته على العالم.

ومنذ أبريل عام 2005 كشفت الولايات المتحدة عن نواياها تجاه منطقة الشرق الأوسط عبر مقال نشرته وزيرة الخارجية آنذاك كونداليزا رايس في الواشنطن بوست؛ عرّفت من خلاله الفوضى الخلاقة بأنّها "نوع من الفوضى التي ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة الآن".

ويمثل غزو العراق في مارس 2003 منعطفًا مهمًا في نشر تطبيق الفوضى الخلاقة التي دعت إليها رايس، وتدمير الدولة الوطنية لصالح الطائفية والحروب الأهلية، وتدمير النسيج الاجتماعي لمجتمعات مستقرة منذ مئات السنوات.

كما جاء استغلال مظاهر الربيع العربي في سوريا عام 2011 لنشر المزيد من هذه الفوضى بدعم التكفيريين والمتشددين من مختلف دول العالم من الشيشان وحتى تونس لشباب عاطلين عن العمل وبلا مستقبل وجدوا في التطرف الديني الطريق نحو تحقيق ذواتهم ولو بشكل مشبوه.

أضف إلى ما سبق الدعم المالي من بعض دول الخليج والسلاح المقدم من الولايات المتحدة و بعض دول أوروبا، والدعم الإعلامي من وسائل الإعلام الرسمية التي انبرت فجأة للدفاع عن الجهاد والإسلام.

وقبل أن تستفيق المنطقة من الحرب الأهلية المستعرة في سوريا، تمّ الدفع بما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق "داعش" ليشعل الحرائق في العراق بعد أن أثمرت بذور الطائفية التي زرعها الأمريكان وأينعت وحان وقت قطافها، فالشيعة في صوب والسنة في صوب ثانٍ والأكراد يقتربون من تحقيق حلم الانفصال وتأسيس دولتهم الكردية.. لقد حان الوقت لتقسيم العراق و"تجزئة المجزأ".

وإلى جوار العراق وسوريا نجد لبنان أيضًا مهددًا بتغيير ملامحه الجغرافيّة وتركيبته السكانية وما حدث - ولا يزال- في بلدة عرسال الحدودية هو "بروفة" سريعة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلا.

أمّا اليمن فلا يزال تنظيم القاعدة هناك ينخر في وحدته الوطنيّة ويهدده بتقسيم مناطقي وأيديولوجي.

ولأنّ مصالح إسرائيل ليست في منطقة الشام والخليج العربي فقط، كان لابد من تأمين عمقها الإستراتيجي في إفريقيا عبر إضعاف مصر وتعميق الانقسام بين أبنائها، وإلهاء جيشها وقيادتها في صراعات داخلية تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، بينما يتم تفجير الأوضاع في ليبيا الجارة الغربية لمصر عبر صراعات القبائل والإسلاميين وبعض العسكريين للسيطرة على السلطة ومكامن النفط؛ بعد تهيئة الوضع تمامًا بإغراق البلاد بشتى أنواع الأسلحة إبّان الإطاحة بحكم العقيد القذافي.

وفي الجنوب يقف السودان على "شفا جرف هار" بعد أن طالته يد التقسيم كـ"دفعة أولى" وبانتظار المزيد عبر استراتيجية "شد الأطراف ثمّ بترها" فإقليم دارفور ربما يكون المحطة الجديدة.

هذا الصراعات والحروب التي تجري بالتزامن وبنفس المنهجيّة وأدوات التأجيج، تجعلنا نوقن بأمرين:

الأول: أنّ الفاعل والمستفيد من هذه الفوضى العارمة هي جهة واحدة تسعى للسيطرة على العالم عبر إقرار نظام عالمي جديد لإتاحة المجال لـ"حكومة عالميّة" تدير هذا الكون وفق رؤية موحدة، وأهداف استراتيجية تمّ العمل عليها لسنوات.

الثاني: أننا حتى اللحظة كعرب ومسلمين لا نزال نغط في سبات عميق، غير مدركين لخطورة اللحظة التاريخية وتداعياتها المستقبلية على الأجيال القادمة؛ بل إنّ البعض منا يساهم سواء عن دراية أو جهل في تمرير مثل هذه المخططات التدميريّة للمنطقة عبر الدعم المالي أو الإعلامي أو حتى توفير الغطاء السياسي لمثل هذه العناصر الجهاديّة شديدة التطرف.

ومن هنا وجب الانتباه والحذر من الإسلام الجهادي والتنظيمات المتشددة التي تمّ استغلالها من قبل المخابرات الغربيّة في تحقيق مآربها المدروسة جيدًا عبر خبراء "مراكز التفكير" وجاء الإسلام السياسي في ذروته ممثلا في تنظيم داعش ليعلن إفلاسها فكريًا وسياسيًا.

ومن هنا وجب التنبيه لعدم إدراج الدين في غياهب السياسة وألاعيبها القذرة؛ لأنّ الدين يجمع ولا يفرق، وأنّ قبول الآخر هو أول الطريق لننجو جميعًا بعيدًا عن التهلكة التي تتزيأ بالمذهبيّة الممجوجة والطائفية الممقوتة.

إنّ الحفاظ على الدولة الوطنية قويةً متماسكةً عصيةً على التفكيك يعني نشر التسامح الديني والمذهبي وتأصيله كمنهج حياة وتطبيقه واقعيًا؛ بعيدًا عن التنظير والتأطير الفكري.

وفي تجربة السلطنة ما يعضد هذا التوجه؛ بل وتعميمه في مختلف البلدان عبر انتهاج نفس الأدوات والآليات التي انتهجتها بلادنا من أجل تعزيز السلم والأمن المجتمعي الذي تفتقده معظم البلدان التي تشتعل فيها الحرائق الفكرية والسياسية والحروب الطاحنة.

تعليق عبر الفيس بوك