فلسطين.. قضيَّة أمَّة

مَشَاهد الدَّمار والخراب، وصُوَر الأطفال القتْلى والمُصابين، وأنَّات الثَّكالى والمقهُوْرين، ودَعَوَات المُهجَّرين قسْرًا، والبيوت التي هُدِّمت فوق رُؤوس أصحابها؛ فخرجُوا من بَيْن أنقاضِهَا بين قتيلٍ وجريح.. مشاهد تُدْمي القلوبَ مُنذ أكثر من ثمانية وعشرين يومًا، هي عُمْر العُدوان الإسرائيلي الغاشم على غزَّة حتى الآن؛ بمُسانَدَةٍ أمريكيَّة -مُعْلنة تارة، ومُسْتترة تارة أخرى- وصَمْت مُفزع للأنظمة العربيَّة، التي لم يجتمعْ مجلسُ جامِعَتها -أو حتى على مُستوى وزراء الخارجيَّة- لبحثِ سُبل وَقْف هذا العُدوان الغاشم على أهل فلسطين.

وسَقَط هذا الكيان العجوز -الذي تجاوزَ عُمْرُه الـ69 عامًا- في مُستنقع الصَّمْت المخزي على إبادة جماعيَّة ترتكِبُها قوَّات الاحتلال الغاصِب بحقِّ شعبٍ عربيٍّ شقيق، وانكفأت مُعظم الدُّول العربيَّة على مُشكلاتها الداخليَّة، ولم يهتزُّ لها جفن مع وُصُول عدد الشُّهداء إلى قُرابة الـ1700 شَهِيْد، وأكثر من 9 آلاف جريح، وتشريد 250 ألفاً يقضُوْن يَوْمَهم وليلتهم في العراء، دُون مأوى، أو طعام، أو شراب، أو كهرباء.

... يأتي هَذا فِي الوقتِ الذي انتفضتْ فيه دُول أمريكا اللاتينيَّة، وسجَّلت مَوْقفًا مُشرِّفاً من القضيَّة الفلسطينيَّة، بَلْ كانتْ في طليعة المُديْنين للهُجوم الدَّامي الذي تشنُّه إسرائيل على قِطَاع غزَّة.. مُعبِّرة عن مَوْقفها بوَصْف إسرائيل بـ"الدَّولة الإرهابيَّة"، واستدعاء سُفراء، وتعبئة شعبيَّة؛ مُقدِّمة دعمًا -بشبه إجماع- للمُقاومين في غزَّة.

وبقدر ما أسْعَدَنا جميعًا مَوْقف رئيس بُوليفيا؛ بإدراجِ إسرائيل على قائمةٍ تضمُّ "الدُّول الإرهابيَّة"، وإلغاء اتفاق يَقْضِي بالإعفاء المتبادل من تأشيرات الدُّخول، بقدر ما آلمني أنَّ دَوْلة عربيَّة واحدة مِمَّن لها عَلاقات دبلوماسيَّة مع الكِيَان لم تقمْ حتَّى باستدعاءِ سفيْرِهَا من تل أبيب، أو تجميدِ العَلاقات مَعَها، كما فعلتْ دُولٌ عدَّة؛ مثل: البرازيل، وأوروجواي، وفنزويلا، وبوليفيا، والأرجنتين.

... إنَّ الدَّعم العربي للقضيَّة الفلسطينيَّة كَانَ مِنَ المُفترض أنْ يقفزَ فَوْق أيِّ خلافات أيديولوجيَّة أو سياسيَّة بين الدُّول العربيَّة وحركة المُقاومة الفلسطينيَّة "حماس"؛ ففلسطين ليستْ "حماس" فحسب، وليست الإخوان المسلمين، بل هي قضيَّة قوميَّة كُبرى عربيَّة إسلاميَّة.. هِيَ قضيَّة تتعلَّق بمصير شعبٍ تجمعُنَا بِهِ وحدة العُرُوبة والإسلام والمصير المُشترك.

لقدْ ظَلَمتْ بعضُ الأنظمة العربيَّة الشعبَ الفلسطينيَّ حينما تخلَّت عن دِعْم أهل غزَّة نكاية في "حماس"؛ باعتبارها امتدادًا فكريًّا لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، وأنَّه يجب استئصالها من المُحيط العربي. وللأسف، ظهرتْ ثمَّة ضَحِكات مُخْجِلة من البَعْض كلما أمطرتْ إسرائيلُ غزَّة بقذائفها برًّا وبحرًّا وجوًّا، ودكَّتْ مَدْفَعيتُها بيوتَ غزَّة فوق رؤوس أصحابها، وكأنَّ اللهَ قد ابْتَعث لهم قوَّات الاحتلالِ الصُّهيوني لتخلِّصهم من "حماس" وتطلعاتها الإقليميَّة.

وقد غضُّوا الطَّرفَ عن المجازر التي ترتكِبُهَا قوَّات الاحتلال في حيِّ وسُوق الشجاعيَّة، وخزاعة، ورفح...وغيرها من المناطق، والتي لا تزال تَفُوْح مِنها رائحةُ المَوْت حتى اللحظة.

والمُؤسفُ حقًّا: أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة قد بدأتْ تخفُت في عَالمِنَا العربيِّ الرازحِ تَحْت وَطْأة مُشكلاته الدَّاخليَّة المزمنة، وحُرُوبه الداخليَّة في سُوريا والعِرَاق وليبيا، في حِيْن عَمَّت التَّظاهراتُ المُندِّدة بجَرَائِم الاحتلال البلدانَ الأوروبيَّة والولايات المتحدة الأمريكيَّة، ودولَ أمريكا اللاتينيَّة. ولعلَّ ذلك ناجمٌ عن تكثيفِ القَصْفِ الإعلاميِّ المُوجَّه ضِدَّ حركة "حماس" في الدُّول العربيَّة، وتصنِيْفِهَا مِن قِبَل البعض كجماعة إرهابيَّة، وهو ما أَعْطَى المسوِّغ للسَّاسة الإسرائيليين لأن يقولوا على الملأ إنهم يُقاتلون عَدوًّا مُشتركا مع بعض الدُّول العربيَّة، كما نشرتْ ذلك صحيفة "نيويورك تايمز" في صَدْرِ صَفْحتها الأولى قبل عدَّة أيَّام.

وليْس من نافلة القول هنا أنْ نُؤكِّد أنَّ الأنظمة العربيَّة قد أساءتْ إلى القضيَّة الفلسطينيَّة بِدَعْمِ كلِّ دولة للمُوالين لها فقط، على حساب الطَّرفِ الآخر فتشظَّت القضيَّة، وتوزَّعت بَيْن أكثرِ من لاعبٍ إقليميٍّ ودوليٍّ؛ فهذا يَدْعَم "فتح" لانسجام أفكارها مع توجُّهاتِه وأيديولوجيَّته، وذَاك يَدْعَم "حماس" لأنَّ هُناكَ نقاطَ تماس فكريَّة وعقائديَّة مُشتركة، في مُحاولة لحجز مِسَاحات للزَّعامة والقيادة للنظام الإقليمي العَرَبي، غَيْر أنَّ هذا التوجُّه -كما أسلفتُ- قد حَالَ دُوْنَ الانضواء تحت رايةٍ واحدةٍ تَسْمُو فوق الأفراد والشخصيَّات، وتتجاوز المكاسب الزَّهيدة، وتبتعدُ عن الزَّوايا الضيِّقة للأمور، وهو ما أنتجَ حالةً من عَدَمِ الثِّقة لدى بعض الفصائل الفلسطينيَّة في الأنظمةِ الحاكمةِ لدول الطوق أو الجوار، ووجدنا دولاً تتحدَّث بلسان "فتح"، وأُخرى تقول إنها مُفوَّضة مِن قِبَل "حماس"، واستفاد الكيان الصُّهيوني الغاصب من هذه الحالة من الانقسام غير المَسْبُوق.

ومن هُنا، كان أحد أهم أهداف الهَجْمَة الإسرائيليَّة فض الاتفاق الأخير بين "حماس" و"فتح"، وإجهاض حُكومة الوحدة الوطنيَّة.

ويُمكنُني القَوْلَ بوُضوح، ودُوْن مُواربة: إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة عانتْ طويلاً من الإسقاطات الأيديولوجيَّة، والاستقطاب -بشتَّى صُوره- من جانب قُوى إقليميَّة وعالميَّة؛ مما أساء إلى القضيَّة الفلسطينيَّة كثيرًا، وأصابَهَا بالضَّعْفِ والفُرقة، في حِيْن أنَّها قضيَّة مركزيَّة يُفترض أن تَسْمُوَ على التجاذُبات الأيديولوجيَّة والسياسيَّة الضَّيقة؛ لتفويت الفُرْصَة على إسرائيل التي تَسْعَى -جاهدةً- لاستغلال تِلْك المساحات المُعْتَمة لفرضِ واقعٍ جديدٍ أكثر إيلامًا ليس للفلسطينيين وَحْدهم، بل لنا جميعًا كعرب ومُسلمين. وتعودُ القضيَّة الفلسطينيَّة مُجدَّداً لتفرض نفسها على العالم؛ ولتكون القضيَّة المركزيَّة في الشَّرق الأوسط، بعد عَبَثِ الحرْب الأهليَّة في: العراق، وسوريا، وليبيا...وغيرها من أزمات مُفتعلة تنال من القضيَّة الكبرى.

... إنَّ الفلسطينيين بحَاجة الآن دُوْنَ أيِّ وَقْتٍ مَضَى لدعمٍ مُتعدِّد المستويات، يُراعي الجَوَانب الإنسانيَّة، والاحتياجات الفعليَّة لمُواجهة آثار هذا العُدوان الإرهابي الغاشم... بحاجةٍ إلى أنْ تستخدمَ الأنظمةُ العربيَّة أوراقَ الضَّغط التي تملكُها لوَقْف آلة الحرب الجنونيَّة التي تحصدُ الأرواحَ دَوْن هَوَادة... بحاجةٍ أيضًا إلى مُؤازرةٍ شعبيَّة واسعة النطاق، تُستخدم فيها كلُّ وسائل التعبير؛ لفضحِ الممارسات العنصريَّة التي تُرتكبُ بحقِّ أهلنا المُحاصرين في غزَّة.

تعليق عبر الفيس بوك