قبل أيّام، وتزامنًا مع بدءِ العدوانِ الإسرائيلي على غزة، أطلقت المُغنِّيةُ الأمريكيةُ المشهورة "ريهانا" تغريدةً مُناصِرةً للقضية الفلسطينية، ولم تلبث أن طبّقت تغريدتها الآفاق بعد إعادة تغريدها بواسطة أكثر من سبعين ألفًا من مُعجبي ومُتابعي النّجمة..
وهُنا ثارت ثائرةُ اللوبي الصهيوني، الذي يتربَّص بكلٍ من يصدح بكلمةِ حقٍ في القضية الفلسطينية، وبممارسة ضغوطه المعهودةِ، لم تجِد النّجمةُ بدًا من التراجعِ وسحب تغريدتها وخلال وقتٍ قصير، بل وأردفت ذلك باعتذار..
وليست هذه هي المرّةُ الأولى التي يتم فيها إسِكات أصواتٍ غربيةٍ تنتقد الممارسات الإسرائيلية، فكلٌ من ينتقد إسرائيل والصهيونية العالمية يتم عقابه بالتهميش والإقصاء والفصل التعسفي من المؤسسة. بل أحيانًا المحاكمات وحرق الكُتب..
أسُوق هذه الحادثة للبرهنة على مدى نفوذ اللوبي الصهيوني، وتمدد أصابعه الأخطبوطية في كافة أنحاء العالم، وفي جميع الشؤون.. هذا النفوذ الذي لم يعد مقتصرًا على المجالات التقليديةِ المعروفةِ من الإعلامِ والسينما والمصارف بل امتدّ ليشمل مجالات أخرى عندما لمس تأثيرها المتنامي على تشكيل الرأي العام العالمي، ومن ذلك نجوم الفن.. والنجمة ريهانا ليست استثناءً من هذه السطوة التي لا توفر أحدًا..
إذن مكامن القوى الحقيقيةِ لإسرائيل ليست بالضرورة في داخلها، إنما مستمدة من عوامل إسنادٍ خارجي، أبرزها اللوبي الصهيوني ..
هذا اللوبي المُتطرِّف الذي استطاع أن يكوّن لنفسه سلطة فوق كل السُلطات - خاصة في الولايات المتحدةِ الأمريكية - حيث يتغوّل ويتغلغل عميقًا في المؤسسات الغربية للسيطرة على القرار السياسي سواء في أمريكا أو أوروبا، وتدمير كلِ من يخطُر على باله نشر حقائق حول الإرهاب الإسرائيلي، وهنا تهمش الديمقراطية في ركنٍ قصِّي، وتحشر حقوق الإنسان في زاوية ضيقة، لتعلو قيم مصلحة وأمن إسرائيل عمّا عداهما.. وتعد منظمة "إيباك" الصهيونية في واشنطن، تجسيدًا حيّاً لمجموعة الضغط الحارسة لمصالح إسرائيل، وهي من أقوى مراكز القوى التي تسعى المؤسسة الأمريكية إلى خطب ودِّها، حتى وإن اضطرت في سبيل ذلك إلى تقديم فروض الولاء والطاعة، والتي لا تخرج عن صيانة أمن إسرائيل ورعايةِ مصالحها حتى وإن تناقض ذلك مع المصلحةِ العليا الأمريكية..
ولم يتأت هذا النفوذ لـ"إيباك "من فراغ، بل نتاجًا لعمل تخطيطي تآمري محكم للتحكم في صانع القرار الأمريكي ليكون قراره دائمًا في خدمة إسرائيل، ولا يحيد قيد أنملة عن الخط المرسوم لسيره في كل ما يتعلّق بإسرائيل وسياساتها ..
وبذلك أصبحت الإيباك منظمة ذات صبغة "مافاوية" اشتقاقًا من المافيا، في ممارساتها وتهديداتها وابتزازها، لدرجة ألا أحد يجرؤ على انتقادها أو تتبع نفوذها في المال والسلطة والإعلام..
ونظرة واحدة إلى المؤتمر السنوي لمنظمة إيباك، تدل على نفوذها القوي حيث يتداعى إلى المشاركة فيه زعماء الكونغرس وأهم شخصيات البيت الأبيض والإدارة الأمريكية هذا إن لم يكن الرئيس الأمريكي نفسه من بين الحضور!!.
يحدُث كل هذا في بلدٍ لا يتجاوز عدد اليهود فيها 2% من إجمالي السكان، إلا أنهم ورغم تواضعهم عدديًا، يمثلون قوة ضاربة على صعيد التأثير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والإعلامي وكل ذلك بسبب الإمساك والتحكم في مفاتيح موازين القوى في المجتمع الأمريكي الذي يدار بالمال والإعلام بوصفه مجتمعاً رأسمالياً، لا يعير اهتماما للمنظومة القيمية، بل يتأثر بالقوة المادية وقطبيها المتمثلين في المال والإعلام..
يُسيطر اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية على النخب والمؤسسات الأمريكية الفاعلة في عالم المال والسياسة والإعلام ومراكز البحوث المعروفة بـ"ثينك تانك".. ويتبع للمنظمة معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى لنشر البحوث الداعمة لإسرائيل..
ألم أقل إنّ قوة إسرائيل تكمن في الخارج الداعم، وليس في داخلها الذي يعُج بالمتناقضات..
وليس بعيدًا عن هذا، ما تناقلته الوكالات الأسبوع الفائت عن اعتزام إمبراطور الإعلام الغربي روبرت ميردوخ الاستحواذ على كامل شبكة تايم وارنر والتي تعد أكبر منظومة إعلامية أمريكية وتضم قنوات تلفزيونية أخبارية أشهرها "سي إن إن"، إضافة إلى باقة من القنوات الإخبارية والترفيهية وغيرها مقابل مبلغ 80 مليار قابل للزيادة..
وفي ظل معرفتنا بميردوخ وتوجهاته الصهيونية ومساندته المكشوفة لإسرائيل، نتوجس خيفة من عصر الإعلام القادم الذي ستكون فيه السيطرة والغلبة المطلقة للإعلام الصهيوني المنحاز بالضرورة لإسرائيل والمنافح عن سياساتها..
سيُحكِم الصهاينة - وعبر هذه الصفقةِ - قبضتُهم على الإعلام الغربي حيث تمتد إمبراطورية ميردوخ من إستراليا وبريطانيا وألمانيا والولايات المُتّحدة لتكون شبكة مترابطة في خدمة إسرائيل، ومحاولة كسب الرأي العام الغربي وضمان اصطفافه خلف مواقفها المجافية للحق.
ولنا أن نتخيّل التراجع الذي سيُصِيب الإعلام الغربي عندما يكون تحت سيطرةِ اللوبي الصهيوني من أستراليا مرورًا بأوروبا وحتى الولايات المتحدة، حيث سيفقد هذا الإعلام الغربي مكانته كسلطة رابعة تقوم بدورها بعيدًا عن سطوة المؤسسات الحكومية والسياسات المنحازة.
أما الإعلام الصهيوني فهو منحاز بشكل مطلق إلى إسرائيل، بقلب الحقائق وتصوير الفلسطينيين كإرهابيين يقتلون اليهود بدم باردٍ، فيما يظهر الإسرائيليين كضحايا يلزم التّعاطف معهُم ومن حقهِم الدِّفاع عن النفس بشتى الوسائل.. وهناك التهمة الجاهزة "معاداة السامية" التي تقذفها هذه الأبواق في وجه كل من ينتقد إسرائيل والصهيونية.. وبهذا المصطلح الإرهابي، يتم ابتزاز العديد من الشخصيات والدول..
ورأينا كيف تمّ ابتزاز ألمانيا للتكفير عن الجرائم النازية، لتظل تدفع في تعويضات فلكية لقيام ودعم إسرائيل، إضافة إلى محاولة ابتزاز والتأثير في الرأي العام العالمي بأنّ اليهود هم ضحايا العداء للسامية.. وبهذا المصطلح تمّت -ولا تزال - إدانة كل من ينتقد الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين .. والمفارقة هنا أنّ الشعب الفلسطيني شعب سامٍ وهو ضحية اللاسامية التي يُمارِسها اليهود الأوربيون والأمريكان!
إنّ خطر الصهيونيةِ العالميةِ اليوم، ليس مقصورًا على الفلسطينيين والعرب فقط، بل على الشعوب الغربية نفسها التي تستخدم ثرواتها في الدمار والحروب تحت ذرائع مختلفة.. فغزو العراق كلّف الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ترليوني دولار ودفعها إلى هاوية أزمة اقتصادية حادة لم تتعاف منها حتى الآن، وهذا الغزو لم يكن لصالح الولايات المُتّحدة بل لخدمة مصلحة إسرائيل في المقام الأول.. ولتبرير هذا الغزو جرى تلفيق واختلاق ذرائع مختلفة منها كذبة أسلحة الدمار الشامل والربط بين القاعدة ونظام البعث في أحداث 11 سبتمبر .. ورغم إدراك العالم أنّ كل ذلك محض افتراءات، إلا أنه لا أحد يجرؤ في الغرب على الجهر برأي مماثل أو التعبير عن ذلك بشكل واضح وصريح..
ومن هنا فإنّ هيمنة اللوبي الصهيوني على العالم تشكل خطرًا مرعبًا كونها تدفع العالم نحو المزيد من الكوارث والحروب عبر أكاذيب وذرائع تدفع ثمنها الشعوب المغلوب على أمرها.
اليوم الشعب الفلسطيني يدفع الثمن غالياً بعد أن تمّ اقتلاعه من أرضه ونفيه للعيش كلاجئي في مختلف دول العالم..
وغزّة المحاصرة تدفع الثمن مضاعفًا، بتعرضها للقصف الهمجي، والقتل العشوائي للأطفال والمدنيين بأسلحة تمول من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين حيث تبلغ المساعدة الأمريكية لإسرائيل ثلاثة مليارات دولار سنويًا..
علمنا التاريخ أن خطر الصهيونية لا يقتصِر على بُقعةٍ من العالم دون سواها، وإن كانت فلسطين تُعاني اليوم من الإسقاط المباشر لهذا الخطر، فإن هذا لا يعني انتفاءه عن الآخرين.. وسيبقى الخطر الصهيوني متربصًا بالعالم.