غزة الصمود

بقلم / حاتم الطائي

الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل حاليًا على غزة، مستخدمة فيها ترسانتها التسليحيّة الفتاكة، والتي أودت بحياة ما يزيد عن 120 فلسطينيًا، وتسببت في إلحاق إصابات بمئات آخرين، حتى اللحظة، ليس لها ما يبررها عقلا ولا قانونًا، وإنّما تصنف في خانة الاعتداءات التي درجت دولة الاحتلال على ارتكابها بحق الفلسطينيين عمومًا، وقطاع غزّة على وجه الخصوص؛ بحجج ومبررات واهية لا تصمد أمام المنطق السوي.

وطوال تاريخ الاعتداءات الإسرائيليّة، لم ينتصر الاحتلال، ولم تنكسر إرادة الصمود والمقاومة الفلسطينية..

وها نحن نعيش حلقة جديدة من سلسلة الاعتداء الصهيوني الغاشم على غزة، والذي يرزح تحت وطأته الفلسطينيون في القطاع الصامد لليوم السابع على التوالي، مستهدفًا المدنيين والأطفال والنساء في هذا الشهر الفضيل؛ شهر الصيام، وهكذا هي إسرائيل لا تراعي قدسيةً ولا حرمات، ولا تأبه لموت الأطفال والنساء والشيوخ..

يحاول الاحتلال التدمير المنهجي للمجتمع الفلسطيني، عبر ممارساته القمعية، واعتداءاته المتواصلة منذ أكثر من خمسين عامًا.. كانت في معظمها تواريخ للمجازر والاقتلاع والترحيل والقتل؛ ابتداء من وعد بلفور المشؤوم 1917.. لتثبت بأنّها أسوأ استعمار استيطاني في العصر الحديث، يقوم على كذبة" أرض بلا شعب، لشعب دون أرض".

وهي فرية يدحضها الواقع والتاريخ، ففلسطين لم تكن يوماً أرضا بلا شعب، بل إنّ شعبها من أكثر الشعوب تمسّكاً بأرضه، وحتى الذين اضطرتهم إسرائيل إلى هجر وطنهم وتوزعوا في المنافي القسرية، لا يزالون يحلمون بالعودة، وتتدلى من رقابهم سلسلة تحمل مفاتيح دورهم، في انعكاس طبيعي لمدى تمسك هذا الشعب بأرضه التي اقتلعه منها الغاصب الصهيوني..

والكذبة الثانية تقوم على افتراض أنّ اليهود شعب، وفي الحقيقة إنّ اليهودية ديانة وليست شعبًا.. يعيش معتنقوها في جميع أنحاء العالم، وهم مواطنون في الدول التي يقطنونها.. إلا أنّ الصهيونية ولدت كرد فعل من رحم العنصرية الغربية، التي كانت تضطهد اليهود باعتبارهم شرقيين وساميين.

ولم يكن طرد اليهود من أوطانهم الأصليّة والذي تمّ بالتواطؤ مع الأيديولوجية الصهيونية، حلا واقعيًا؛ بل جريمة اكتملت أركانها باضطهاد الفلسطينيين، ونفيهم من وطنهم لإحلال اليهود مكانهم..

كان أجدر بالضمير الغربي أن يكفل لهم حقوقهم كمواطنين في بلدانهم سواء في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول التي تعاطفت مع الأماني الصهيونية لإيجاد وطن قومي لليهود..

ومنذ تأسيسها، انخرطت دولة إسرائيل في تنفيذ جرائم القتل الأعمى لأصحاب الأرض الفلسطينيين، فلا يمر عام إلا وترتكب إسرائيل مجزرة في حق شعب أعزل أجبر على العيش لاجئًا في وطنه..

ومجزرة غزة اليوم هي جزء من سلسلة مجازر ممتدة لأكثر من نصف قرن؛ ابتداءً من دير ياسين ومرورًا بصبرا وشاتيلا وقنا وليس انتهاءً بغزة.. في مسلسل طويل تتصدى له المقاومة الفلسطينية بإرادة تزلزل عرش الصهيونية رغم محدودية الإمكانيات، وبالرغم مما تتعرض له من سياسات الخنق الإسرائيلية.. نجحت المقاومة في فرض القضيّة الفلسطينية على خارطة الاهتمامات العالميّة، متجاوزة محاولات التهميش والحصار الإسرائيلي..

كما إنّ المقاومة حققت نجاحات نوعيّة لجهة دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وإحباط محاولات المحتل كسر الإرادة الوطنيّة، و وأد روح النضال..

وفي كل هذا، تعتمد المقاومة على إمكانياتها الذاتية، والسعي لتطويرها لمواءمة استحقاقات كل مرحلة من مراحل النضال.. فتدرّجت من الكلمة إلى الحجر ثمّ النبل والمقلاع وصولا إلى مرحلة الصواريخ..

وقد أذهلت المقاومة العالم برباطة جأشها وقدرتها على الاستبسال، وتطويع الإمكانيات المحدودة لمواجهة ترسانة التسلح الإسرائيليّة.. وتقف صواريخ المقاومة الفلسطينيّة خير دليل على ذلك، حيث إنّها تمكنت من الوصول إلى العمق الإسرائيلي، لتضرب حيفا في شمال إسرائيل، وتل أبيب والخضيرة وعسقلان والقدس، والمذهل في الأمر أنّ الغارات الإسرائيلية ورغم ما تدعيه من دقة في التوجيه بالأقمار الصناعية وغيرها من أجهزة حديثة، فشلت في تدمير منصّات الصواريخ التي تطلق من أنفاق تحت الأرض مما يصعب عمليّة اكتشافها وتدميرها، لتقتل غارات الاحتلال الأبرياء بدلا من تدمير المنصّات، في عقاب جماعي لم يشهد له التاريخ المعاصر مثيلا..

ولقد صدمت المقاومة الإسرائيليين بقدرتها على الصمود والإفلات من الاستهدافات الصهيونية، مما أدخل الرعب، وبث الفزع في نفوس الإسرائيليين الذين اعتصموا بالملاجئ بحثا عن ملاذ آمن، إدراكًا منهم لصلابة عزم المقاومة، ومقدرتها على السير في مضمار التحدي إلى نهاية الشوط.

ومما يخيف الإسرائيليين أكثر، أنّهم يعلمون يقينا أنّ صواريخ المقاومة ذات التأثير التدميري المحدود في الوقت الراهن، ستصبح أكثر فتكًا في المستقبل في ظل حرص المقاومة الفلسطينيّة على تطويرها عامًا بعد آخر، لتشكل هذه الصواريخ خلال السنوات القادمة نقلة كبيرة في موازين القوى في ساحة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.. فقد تتسبب هذه الصواريخ لاحقا في إلحاق الخسائر بالاقتصاد الإسرائيلي من خلال ترك الإسرائيليين لأعمالهم ولجوئهم إلى الملاجئ اتقاءً لضربات هذه الصواريخ، كما إنّه قد يكفي صاروخ واحد متقن الصنع في المستقبل؛ لإصابة المفاعل النووي في ديمونة بصحراء النقب ليلحق هزة كارثيّة بإسرائيل، تجبرها على إعادة النظر في كل سياساتها العدوانيّة بحق الفلسطينيين، وقد يحملها مثل هذا التطور على الرضوخ للسلام الذي ما فتئت تتهرب عن استحقاقاته..

إذن، أثبتت المقاومة أنّ أوراق اللعبة ليست بيد إسرائيل فقط، وإنما يمكن أن يكون للفلسطينيين اليد الطولى فيها فيما لو أحسنوا توظيف عناصر الضغط التي يملكونها ومن بينها صواريخ الصمود التي تحمل معاني أكثر من كونها سلاحًا محدود القدرات، إلى تجسيد لعزم المقاومة وإرادة الحياة ورفض الضيم.

إنّ السعار الذي أصاب حكومة نتنياهو المرعوبة من وقع الصواريخ، لن يقضي على إرادة المقاومين، ولن يفت في عضدهم، بل سيزيدهم إصرارًا على المضي قدمًا لردع العدوان مهما تعاظمت التضحيات، وستكون إسرائيل هي الخاسر الأكبر الذي يجرجر أذيال الخيبة عائدا إلى وكره في أعقاب كل استهداف فاشل لقوى الصمود في غزة وغيرها من الأراضي الفلسطينية.

ويبقى أن نقول إنّه تاريخ طويل، وسجل صهيوني طافح بالممارسات غير الإنسانية، وقد شهد في الماضي، ويشهد في الوقت الحاضر، وسيشهد مستقبلا الكثير من الفصول التراجيدية، إلا أننا موقنون بأنّه سينتهي حتمًا برحيل الصهاينة، وهذا ما يدركه الإسرائيليون حقاً في قرارة أنفسهم، وتعبّر عن هذا ردود الفعل الهستيرية لسلطات الاحتلال على أي عمل يقوم به الفلسطينيون فهم "يحسبون كل صيحة عليهم".

وعلى النقيض من ذلك، ترسّخت في وجدان الفلسطينيين القناعة بأنّهم باقون على أرضهم مهما تكالبت عليهم محن الاحتلال، وتعاظمت ابتلاءته.. ويدركون كذلك أنّ استعادة الحقوق تستوجب الصمود طويلا.. في ظل أجواء غير مواتية، حيث إنّهم يقفون في الساحة لوحدهم دون سند من أشقاء، أو دعم من أصدقاء، فالعرب مشغولون في أنفسهم، والمسلمون مستغرقون في حروب طائفية..

ويشن الغرب على المقاومة حملات الاتهام والمسؤولية عن بدء العدوان، فها هو الإعلام الغربي ممثلا في صحفه الرئيسية وقنواته الأخرى، وبتأثيره الطاغي يلوم حماس على الحرب، ويتعاطف مع إسرائيل، التي يحاول تقديمها وكأنّها الضحيّة المسالمة التي لا تقدم على أي فعل سوى الدفاع عن نفسها.!!

ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تذهب وسائل الإعلام التي تدار بريموت كنترول المال اليهودي إلى أبعد من ذلك، بتصوير الفلسطينيين "كإرهابيين" يجب قتلهم.. وهي تستمد الدعم في هذا من دوائر ذات صلة بمراكز اتخاذ القرار التي يتغلغل فيها اللوبي اليهودي..

ورغم كل هذا نستطيع الجزم، أنّ الفلسطينيين وفي طليعتهم المقاومة الباسلة، هم من سيرسمون ملامح المرحلة المقبلة بإرادة النضال، والصمود الأسطوري في وجه التحديات والاعتداءات الإسرائيليّة، وهم في النهاية من سيعيد القضيّة الفلسطينية إلى الواجهة.. ومن سيرسي الحلول المنصفة والعادلة لها، وهم من سيضع النقاط على حروف الحلول النهائية لقضيتهم بما يكفل السلام الحقيقي والسيادة الكاملة على أرضهم، وقيام دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

تعليق عبر الفيس بوك