د. رضية بنت سليمان الحبسية
أستاذ الإدارة التربوية المساعد بجامعة نزوى
يقوم الحوار على ركيزة أساسها الإيمان بالاختلاف في الرُّؤى والمصالح، كما تتمثل مُهمة الحوار في تقريب وجهات النظر وفق مبادئ وقيم الحوار العقلاني؛ حيث إنّ الحوار في رسالته يعمل على إرساء ثقافة احترام الرأي والرأي الآخر؛ تحقيقًا للتآلف والتعاضد، والوصول إلى نتائج مرضية(مكسب-مكسب) لكلا الأطراف دون خسائر.
وقلة الوعي باختلاف الثقافات بين الأجيال، تقود إلى تداعيات قد تؤجج الخلاف إلى ذروته، مما يجعل إيجاد نقاط مشتركة صعبًا، إنْ لم يكن مستحيلًا. وإنْ حدث، فقد يكون في أثواب مُرقعة. لذا فإنّ إدراك خصائص وسمات الجيل الحالي، يُعدّ سمة ذهبية في تقبله، والسعي للبحث عن أنجع السُبل للإدارة الحكيمة، لاحتوائه وتفهم مطالبه.
وعليه.. فإنَّ إدراك عقليات جيل الألفية الثالثة، واستيعاب طاقاته، يساهم في الاهتداء إلى حلول تشعرهم بالأمان والطمانينة، واحترام طريقة تفكيرهم، وتقدير مطالبهم بعيدًا عن أساليب التعنيف والاستفزاز، الذي يفضي إلى ردود فعل أكثر عنفًا وتمردًا، وتعبيرًا لرفضهم أساليب معالجة المواقف القائمة على استخدام السلطة والتهديد والوعيد.
لذا ينبغي علينا كمربين، وأصحاب نفوذ، أو متخذي قرار، أنْ نوجد مساحات واسعة لاكتشاف النقاط المشتركة بيننا كأجيال متلاحقة، أثّرت عليها العولمة بما تحمله من أدوات، بتنوع أسلوبها واختلاف أثرها. كما ينبغي إدارة الأحداث وبلورتها بعقليةٍ مرنةٍ متفتحةٍ، وفكٍر راقٍ مُتّقِد، والتحلي بروح الصبر والتّاني في إصدار الأحكام؛ لما فيه الصالح العام آنيًا ومستقبلًا. فتربية الناشئة تتطلب حنكة، والتعامل معهم يحتاج فراسة وخبرة في توجيههم الوجهة السلوكية الصحيحة.
وبالمُقابل، على كل من له علاقة بالتنشئة الاجتماعية، أو التربية الوالدية، تنمية ثقافة الحوار لدى الأبناء منذ نعومة أظافرهم، وإكسابهم مهارات الحوار والنقاش عمليًّا، من خلال تمثّل الكبار لتلك المهارات قولًا وفعلًا. فيكتسبون تلك المهارات قدوةً لا عنوةً، فيكون أثرها قيمة، وخُلقا جوهريًّا، إضافة إلى زرع الثقة في نفوسهم، واتجاه الآخرين، فيكون الحوار المُتبادل عادلًا. ومثمرًا.
فالحوارَ الفعّال أساس نجاح العلاقات الإنسانية، فمن خلال الالتزام بآداب الحوار والنقاش، تشيع المحبة والتفاهم في الأوساط البشرية. وحتى تغدو فنون الحوار سلوكًا راسخًا، يجب الابتعاد عن الجدال العقيم، والتعامل بمرونة مع المواقف؛ فذلك من شأنه الارتقاء بواقع تعاملاتنا، وترقية ردود أفعالنا على اختلاف المسببات والأزمنة.
وهنا سأعرض قصة قد تكون رمزية من القصص الصينية، "قصة حوار الطرشان"، وهي قصة سُرِدَت علينا في إحدى الدورات التدريبية للمدربة الدكتورة أمل الرفاعي، والتي تقول: ﻓﻲ ﺇﺣﺪﻯ ﺍﻟﻘﺮﻯ ﻋﺎﺵ 4 ﻃﺮﺷﺎﻥ، ﻛﺎﻥ ﺍﻷﻭﻝ ﺭﺍﻋﻴًﺎ ﻟﻸﻏﻨﺎﻡ، ﻭﺍﻟﺜﺎني ﻣﺰﺍﺭعاً، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ، فبائع ﻣﻠﺢ ﺟﻮﺍﻝ، ﻭﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻛﺎﻥ ﻗﺎﺿﻲ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ. ﻓقد ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ ﺫﺍﺕ ﻳﻮﻡ ﺃﺣﺪ ﺧﺮﺍﻓﻪ، ﻭﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻨﻪ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ ﻣﺘﺴﻠﻘﺎً إﺣﺪﻯ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻟﻘﺪ ﻓﻘﺪﺕ ﺧﺮﻭﻓﺎً ﻣﻦ ﺧﺮﺍﻓﻲ ﻓﻬﻞ ﺭﺃﻳﺘﻪ؟ ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ: ﺃﻧﺎ ﻟﺴﺖ ﻋﺠﻮﺯا ﻭﻣﺎ ﺯﻟﺖ ﻓﻲ ﻋﺰ ﺷﺒﺎﺑﻲ.. ﻭﻗﺒﻞ ﻗﻠﻴﻞ ﻛﻨﺖ هناﻙ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ إﻟﻰ ﺗﻞ ﻗﺮﻳﺐ.. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ: ﺷﻜﺮﺍً ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺎﻋﺪﺗﻚ ﻭﺃﻋﺪﻙ ﺃﻧﻨﻲ ﺇﻥ ﻭﺟﺪﺕ ﺧﺮﻭﻓﻲ ﻓﺴﻮﻑ ﺃﻫﺪﻳﻚ ﺣﻤﻼً ﺻﻐﻴﺮﺍً، ﺛﻢ اﺳﺘﻄﺮﺩ ﻣﻮﺿﺤﺎ ﺣﻤﻼً ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻭﻟﻴﺲ ﺧﺮﻭﻓﺎً، ﺛﻢ ﺫﻫﺐ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ إﻟﻰ ﺍﻟﺘﻞ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻭﺟﺪ ﺧﺮﻭﻓﻪ ﺍﻟﻤﻔﻘﻮﺩ! ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻋﺎﺩ إﻟﻰ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ ﻟﻴﻮﻓﻲ ﺑﻮﻋﺪﻩ، ﻓﻠﻤﺎ ﻭﺻﻞ إﻟﻴﻪ ﻗﺎﻝ: ﻟﻘﺪ ﻭﺟﺪﺕ ﺧﺮﻭﻓﻲ ﻭإﻳﻔﺎﺀً ﻟﻮﻋﺪﻱ، ﻓﺴﻮﻑ ﺃﻫﺪﻳﻚ ﺣﻤﻼً ﺻﻐﻴﺮﺍً... ﻭﻟﻴﺲ ﺧﺮﻭﻓﺎً. ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ ﺑﻐﻀﺐ: أﺗﺘﻬﻤﻨﻲ ﺑﺴﺮﻗﺘﻪ؟ ﺃﻧﺎ ﻟﻢ ﺃﺳﺮﻗﻪ. ﻓَﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ: ﻟﻘﺪ ﻭﻋﺪﺗﻚ ﺑﺄﻥ ﺃﻋﻄﻴﻚ ﺣﻤﻼ ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻭﻟﻴﺲ ﺧﺮﻭﻓﺎ ﻛﻤﺎ ﺗُﺮﻳﺪ.
اﺳﺘﻤﺮ ﺍﻟﺠﺪﻝ ﺣﺘﻰ ﻣﺮّ ﺑﺎﻟﻘﺮﺏ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺑﺎﺋﻊ ﺍﻟﻤﻠﺢ ﺍﻟﺠﻮﺍﻝ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ: ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﺤﻜﻢ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺗﻨﺼﻔﻨﻲ، ﻓﺮﺩ ﺑﺎﺋﻊ ﺍﻟﻤﻠﺢ ﻗﺎﺋﻼ: ﺣﺴﻨﺎً ﺣﺴﻨﺎً ﺳﺄﻋﻄﻲ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻜﻢ ﺣﻔﻨﺔ ﻣﻠﺢ ﻻ ﺃﻛﺜﺮ، ﻃﺎﻟﻤﺎ ﺃﻧﺘﻤﺎ ﻣُﻔﻠﺴﻴﻦ..ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ: ﻟﻘﺪ ﻭﻋﺪﺗﻪ إﻥ ﻭﺟﺪﺕ ﺧﺮﻭﻓﻲ ﺑﺄﻥ ﺃﻋﻄﻴﻪ ﺣﻤﻼ ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻭﻫﺎﻫﻮ ﻳﻄﻠﺐ ﺧﺮﻭﻓﺎ ﻛﺒﻴﺮﺍ!.. ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ: ﻻ ﻻ ﺗﺼﺪﻗﻪ ﻓﺄﻧﺎ ﻟﻢ ﺃﺳﺮﻕ ﺍﻟﺨﺮﻭﻑ.. ﻓﺮﺩ ﺍﻟﺒﺎﺋﻊ ﻗﺎﺋﻼ: أﺗﺮﻳﺪﺍﻥ ﻛﻴﺲ ﺍﻟﻤﻠﺢ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ! كلا ﻟﻴﺲ ﻫﺬﺍ ﻣﺎ اﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﻠﻴﻪ.. ﻭاﺳﺘﻤﺮ ﺍﻟﺠﺪﻝ ﺍﻟﻌﻘﻴﻢ ﺣﺘﻰ اﺗﻔﻘﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ إﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ. ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﺤﻈﺎﺕ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﻳﺰﺟﺮ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻗﺎﺋﻼً: ﻳﺎﻟﻚِ ﻣﻦ ﺍﻣﺮﺃﺓ ﺳﻠﻴﻄﺔ ﺍﻟﻠﺴﺎﻥ.. اﺫﻫﺒﻲ ﺍﻟﻰ ﺑﻴﺖ ﺃﻫﻠﻚِ.. ﺃﻧﺖِ ﻃﺎﻟﻖ! ﻟَﻤﺢ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ ﻭﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ، ﻭﺑﺎﺋﻊ ﺍﻟﻤﻠﺢ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ، ﻓﺄﺳﺮﻋﻮﺍ ﺇﻟﻴﻪ ﻟﻴﺤﻜﻢ ﺑﻴﻨﻬﻢ.
ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ: ﻟﻘﺪ ﻭﻋﺪﺕ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ ﺇﻥ ﻭﺟﺪﺕ ﺧﺮﻭﻓﻲ ﺑﺄﻥ ﺃﻫﺪﻳﻪ ﺣﻤﻼ ﺻﻐﻴﺮﺍ، ﻭ ﻫﺎﻫﻮ ﻣُﺼِﺮ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻋﻄﻴﻪ ﺧﺮﻭﻓﺎ ﻛﺒﻴﺮﺍ! ﻓَﺮﺩ ﺍﻟﻤﺰﺍﺭﻉ ﻗﺎﺋﻼ: ﺇﻧﻪ ﻛﺎﺫﺏ ﻣُﺤﺘﺎﻝ ﻓﺄﻧﺎ ﻟﻢ ﺃﺳﺮﻕ ﺍﻟﺨﺮﻭﻑ! ﻓَﻘﺎﻝ ﺑﺎﺋﻊ ﺍﻟﻤﻠﺢ: ﻻ ﺗُﺼﺪﻗﻬﻤﺎ ﻟﻘﺪ ﻭﻋﺪﺗﻬﻤﺎ ﺑﺄﻥ ﺃﻋﻄﻲ ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺣﻔﻨﺔ ﻣﻠﺢ ﻭﻫﺎﻫﻤﺎ ﻳﻄﻠﺒﺎﻥ ﺍﻟﻜﻴﺲ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ!.. ﻓَﺮﺩ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﻘﺎﺿﻲ ﺑﻌﺼﺒﻴﺔ ﻗﺎﺋﻼً: ﺃﺗﺮﻳﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﺃﺭﺟﻊ ﺯﻭﺟﺘﻲ؟! ﻫﺬﺍ ﻣُﺴﺘﺤﻴﻞ ﻟﻦ ﺃﻓﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﺃﺑﺪﺍ، ﻓﻘﺪ ﻃﻠﻘﺘﻬﺎ.. ﺳﺒﻖ ﺍﻟﺴﻴﻒ ﺍﻟﻌﺬﻝ.
العبرة من القصة: قد تشعر الأطراف المشاركة في الحوار أنهم يتحاورون بلغة الإشارة، وفحوى رسائلهم قد وصلت كما يقصدون. كما يظن كل طرف أنه على حق، وﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍﻵﺧﺮﻋﻠﻰ ﺑﺎﻃل، ولا يبذل أي منهما جهدًا للتنازل، أو محاولة لإيجاد نقاط تفاهم مشتركة، والنتيجة تصاعد الموقف، وخروجه عن السيطرة.
ختامًا.. إنّ الحوار المبني على المصالح الشخصية، والأهواء الذاتية، لا يفسح للعقل والمنطق مجال، حيث تسعى الأطراف كافة، للانتصار لفكرتها ورأيها، بعيدًا عن المنطق والعقلانية. وتكون النتيجة خسارة- خسارة في الصراعات البينية، ومآل طبيعي للحوارات التي يحركها الهوى والرغبات الداخلية. كما أنّ ضعف امتلاك مهارات الاتصال والتواصل، أو القصور في مهارات إدارة النزاعات، يؤدي إلى تصاعدها، وسبل مُعالجتها تكون مُكلفة. فالخير كل الخير في الامتثال لقوله تعالى: "لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (القرآن الكريم، فصلت: 34).