حاتم الطائي
الهند القريبة البعيدة، الحميمة والغريبة بالنسبة لنا نحن العمانيين.. يفصلنا عنها المحيط الهندي، ويقربنا منها إرث مجيد من التواصل الحضاري المبكر الذي اختطه أسلافنا وهم يمخرون عباب المحيط كأسياد للبحار المفتوحة لقرون عديدة في سفنهم الرشيقة في رحلتي الشتاء والصيف، من صور العفية إلى زنجبار وحتى البصرة مرورًا ببومباي وكوشين وغيرها من موانئ تطل على المحيط..
الهند بلد المتناقضات، يجتمع على أرضها المهراجا بجاهه السلطوي وثرائه المادي، والمنبوذ الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء ولا يجد قوت يومه..
نجهل الكثير عن بلاد المهراجا، رغم أنه يوجد بين ظهرانينا مئات الألوف من الضيوف القادمين من شبه القارة الهندية، أقول: إنّ معرفتنا بالثقافة الهندية سطحية إلى حد بعيد. ولربما كان أسلافنا يعرفونها بشكل أفضل، لعمق التواصل معها آنذاك باعتبار أنها كانت إحدى محطاتهم الرئيسية في المحيط الهندي.. وأتاحت لهم عمليات التبادل التجاري احتكاكاً مباشرًا وفّر معرفة أفضل بالآخر على مختلف المستويات.
ورغم أن هذه زيارتي العاشرة للهند خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلا أنها وفي كل زيارة تذهلني بالكشف عن مخبوء جديد من أسرارها، وتفاجئني بملمح حضاري لم التقطه سابقاً..
بلاد غاندي وطاغور.. تأسر كل من يعرفها عن قرب، بتنوعها وثرائها الروحي والمعرفي، وتقدمها الاقتصادي.. فوق هذا وذاك هذا الدفق من الحيوية والحراك الذي يحيطك أينما توجهت في تلك البلاد المترامية الأطراف.. فما أن تطأ قدماك إحدى المدن الهندية من بومباي ودلهي وكوشين وحيدرأباد ومدراس حتى تشعر بالطاقة والحيوية والإيقاع المتسارع للحياة.. هناك التدافع سيد الموقف، والحراك فعل تلقائي لابد منه لكسب لقمة العيش، لأن إيقاع الحياة سريع، وقطارها لا يعرف التوقف.. لا شيء هنا يرضخ لطقس التقاط الأنفاس.. ولا اعتراف بالسكون في ساعات الحركة..
تعود معرفتي بالهند، إلى ذكريات غائمة من الطفولة البعيدة، حيث ارتسمت صورة لها في مخيلتي مثل الكثيرين من أبناء جيلي من خلال الأفلام الهندية ونجومها الكبار آنذاك من راج كابور وشعبانة عزمي وحتى دارمندرا، هؤلاء كانوا أبطالاً في نظرنا وهم ينتصرون لقيم الحب والعدالة، ويرسمون النهايات السعيدة لكافة مآسي الحياة.
يأسرك الهنود بطبيعتهم المسالمة فهم شعب متسامح إلى أبعد الحدود.. منسجمين مع أنفسهم والعالم المحيط بهم. يستقبلون الآخر كما هو، يهزون رؤوسهم في حركة عفوية تعبر عن موقف متسامح، وبتحيتهم التقليدية "نماستيه" التي تتطلب ضم الكفين أمام الوجه والتي تعبر عن كل الاحترام والتقدير..تشربوا روح الإنسانية وجوهرها الحقيقي القائم على المحبة وقبول الآخر بعيدًا عن الأحكام الأخلاقية والتصنيفات المعلبة.
وهذه الروح التسامحية مستمدة من التعدد الذي تتسم به هذه البلاد القارة، فهي تضم العديد من الإثنيات والقوميات، وعشرات اللغات والأديان والمعتقدات..
وتعلو هنا قيم الروحانيات الشرقية الأصيلة التي جعلتهم يعيشون على وفاق مع أنفسهم أولاً ومع الآخر ثانياً، الوفاق هنا بمعنى السلام والانسجام والوئام.. ومن هنا لا نستغرب أن الهندي لا يقدم عادة على قتل الحيوانات والزواحف مثلاً، من معتقد التعايش مع الطبيعة بكل مكوناتها، وهم وفقًا لذلك لا يسوغون لأنفسهم قتل أفعى أو أرنب أو أسد..إنّهم يدركون بالفطرة أهمية التوازن البيئي، كما إنّ الهندوس يؤمنون بتناسخ الأرواح، فالقطة قد لا تكون كما يبدو عليه الحال ظاهريًا، كما إنهم يخافون من لعنة الكائن الآخر عند الإضرار به، لذا يتورعون عن قتل الحيوانات إلا عند الضرورة القصوى، ولابد بعدها من طلب الغفران.
والحال هكذا ليس بمستغرب أن نجد معظم الهنود نباتيون وقليل منهم من يأكل اللحوم، وكل هذا نابع من تشربهم للروحانيات العميقة..
ومن عمق هذه الثقافة المتسامحة ولد المهاتما غاندي، والمهاتما تعني الروح العظيمة، كما أطلق عليه شاعر الهند طاغور، لينتصر بسياسته المعروفة بالاحتجاج السلمي واللا عنف على الاستعمار الإنجليزي بإشهار سلاح المقاطعة والعصيان المدني. وهي من السياسات الفعّالة في المقاومة والتحرر والتي أوحت بتبنيها للكثير من الثوار حول العالم وعلى رأسهم نيلسون مانديلا.
الإسلام هنا.. تاريخ وحضور جلي في كافة مفاصل الحياة، فقد جاء الإسلام إلى شبه القارة الهندية مبكرًا مع التجار العمانيين والعرب، وانتشر ليشكل ما نسبته 15% من سكان الهند اليوم، وهنا يوجد ثاني أكبر تجمع للمسلمين في العالم بعد إندونيسيا..
وما لا يعرفه الكثيرون، أن أقوى حضارة إسلامية قامت خارج بلاد العرب بعد الأندلس هي حضارة دولة المغول في الهند والتي حكمت لمدة ثلاثة قرون حتى مجيء الإنجليز. وعلى الرغم من أن اسم المغول في ثقافتنا يرتبط بالغزو المغولي للمشرق العربي إلا أنّ الأجيال اللاحقة من المغول اهتدت إلى الإسلام الذي استطاع أن يضفي على عنفوانهم، سمو رسالة الحضارة الإسلامية فتمكنوا من خط صفحات مشرقة تركت بصماتها على مختلف نواحي الحياة في الهند وخاصة في فنون العمارة والصناعة والفنون والتسامح وتبقى حتى اليوم إنجازاتهم شاهقة مثل تاج محل، وشارمنار، والمسجد الجامع والقلعة الحمراء وغيرها من مآثر خالدة يعاني الكثير منها حالياً الإهمال والزحف المدني والتلوث.
وقد شغف حكام المغول بالفنون بشكل عام وامتزجت بالفنون المحلية والإسلامية القادمة من المراكز الحضارية الأخرى وازدهرت ازدهارًا عظيمًا. ويعد السلطان أكبر من أعظم حكام المغول ويعرف بأكبر العظيم. وقد جاء بعده ابنه جهانكير الذي أصدر ما يعرف بدستور الأمل وهو عبارة عن 12 وصية وجهها إلى الولاة ليسيروا على هديها في تدبير شؤون الدولة.
ولا يمكن أن ننسى السلطان شاه جهان الذي بنى الضريح المعروف" تاج محل" ليعد مثالاً رائعًا في الوفاء والحب الخالد، وهو مؤسس دلهي الجديدة التي عرفت في عهده شاه جهان أباد.
وتبقى صفحة المغول ناصعة في الهند لما أدخلوه من إصلاح وتنظيم وحضارة وتسامح بين الأديان جميعها. إلا أنّ الصراع بين الأبناء على العرش هو الذي أضعفهم شيئًا فشيئًا حتى جاء الإنجليز وهم في فترة من الوهن والضعف منصرفين نحو مصالحهم الشخصية وكان بهادر شاه آخر سلاطين المغول بالهند.
تعيش الهند اليوم نهضة اقتصادية اتّضحت معالمها خلال العشرين سنة الأخيرة، حيث ينمو اقتصادها بنسبة تصل إلى 7% في المتوسط كل عام. وخلال هذه الفترة عرفت الهند ازدهارًا اقتصاديًا حيث دخلت الكثير من الاستثمارات معتمدة على رخص العمالة ووجود الكفاءات المختلفة، واستثمرت الكثير في التعليم لتخرج كفاءات عالية في مختلف المجالات، لتحول الانفجار السكاني من مشكلة إلى جزء من الحل عبر خلق أجيال متسلحة بالعلم تساهم في بناء الاقتصاد.
واليوم.. يتخرج كل عام من جامعات الهند مليون مهندس ومائة ألف طبيب وتحرص العائلة الهندية على تعليم الأبناء حتى إنّهم يضحون بالكثير من أجل حصول الأبناء على تعليم جامعي جيّد يؤهلهم للدخول إلى سوق العمل ذي الطبيعة التنافسية الشرسة.
تقنيًا.. حققت الهند تقدمًا كبيرًا في مجال تقنية المعلومات، ويعد هذا القطاع من أسرع القطاعات الاقتصادية نموًا، ويدر على البلاد أكثر من 70 مليار دولار سنويًا.. وتعد مدن حيدر أباد وبنجالور من المراكز المهمة لشركات تقنية المعلومات التي تقدم خدماتها للعالم أجمع. ويكفي القول إنّ أكبر مركز للبحوث تابع لمايكروسوفت خارج الولايات المتحدة قائم في مدينة حيدر أباد التي تعرف بـ" آي تي أباد".. كما أن مخترع البريد الإلكتروني "هوت مايل" هو الهندي المسلم صابر باتيا الذي باع اختراعه لمايكروسوفت. ومن نماذج النجاح الرائعة في هذا الصدد شركة إنفوسيستم الهندية ومقرها مدينة بنجالور والتي يتم التداول على أسهمها في سوق نيويورك للأوراق المالية" ناسداك" منذ عام 2000.
الهند حضارة أعطت الكثير للعالم وهي في الوقت نفسه مشغولة ببناء قدراتها وتنميتها وعمرانها، يأتي إليها اليوم العمانيون للدراسة والعلاج في مستشفياتها. كما جاءها ذات صباح أسلافنا في سفنهم وهم يجوبون موانئ المحيط الهندي وشرق أفريقيا لينشروا السلام عبر البحار..
وهآنذا أتجول في شوارع بومباي، باحثًا عن وجه آلفه، فينساب إلى مسامعي صوت الفنان سالم بن راشد الصوري والذي شهدت هذه المرابع أول تسجيل حديث لأغانيه ومنها أغنيته المشهورة:
يا مركب الهند بودجلين
يا ليتني كنت ربانك..
وأعبر بك البر والبحرين..