أيَّامٌ ويُسدلُ الستارُ على العام الدراسيِّ، وبعدَ شهورٍ يبدأُ آخر،والتحدِّياتُ هي عينُها: المُعلم، الطالب، والمنهج.
ففيما يتعلَّق بدور المعلِّم، فقد أريْقَ الكثيرُ من حبر الكتابة على قضاياه وهمومه (من جهة)، وقصوره وحاجته للتأهيل (من الجهة المقابلة).
وأحاولُ عبر السطور التالية التفكير بصوت عالٍ في هذه القضيَّة التي تهمُّ الأجيالَ الحاضرة واللاحقة، ولِمَا لها من تأثيرات مباشرة على مستقبل الوطن.
وقبل الدخولِ إلى صُلب الموضوع، أودُّ الإشارةَ إلى أنَّ ثمَّة مُحفِّزيْن أساسيَّيْن دفعا بي لمناقشة القضيَّة:
الأول: إفادات سعادة سعود بن سالم البلوشي وكيل وزارة التربية والتعليم للتخطيط التربوي وتنمية الموارد البشريَّة، والذي حلَّ ضيفًا على "صالون الرؤية"، الأسبوع الماضي، وما تضمَّنته من تفاصيل حول تحدِّيات المُعلم العُماني، والحاجة إلى ما اصطُلح على تسميته بـ"إعادة إنتاج المُعلم".. فقد كان في غاية الشفافية والوضوح في عكس الواقع الحالي للمُعلم، والحاجة الماسَّة إلى منظومة تأهيليَّة ثنائيَّة الأركان؛ الركن الأول يتمثلُ في: "التأهيل المعرفي"، والذي يُتيح للمُعلم التمكُّن من المعلومة التي يسعى إلى إيصالها لطلابه. أما الركن الثاني، فيتعلق بإيمانه بدوره الريادي، وأهميَّة وظيفته الرساليَّة في تربية وتعليم النشء وإعداد الأجيال؛ لمواجهة الاستحقاقات المستقبليَّة؛ باعتبار أنَّ المُعلمَ عماد المنظومة التعليميَّة، وأساسُ تطويرها، خاصة وأننا في عالم مُتسارع تتنامى فيه الطموحات، ويعلو فيه سقف توقعات المجتمع من العمليَّة التعليميَّة.
والدافع الثاني: أنَّني ظللتُ أتابعُ -خلال العامين الفائتين- البرنامج التدريبي والتأهيلي الطموح: "البرنامج الأكاديمي للمعلمين ذوي الخبرة" -وهو جهدٌ مُشتركٌ بين وزارة التربية والتعليم، وجامعة السلطان قابوس- فالبرنامج الذي يدخلُ اليوم دورته الثالثة؛ باستضافة 500 مُعلم من مختلف التخصُّصات، يُعدُ نقلة نوعيَّة في مفهوم التدريب الهادف إلى تنمية الجانب الأكاديمي للمعلمين في التخصُّصات المستهدفة، وإثراء معارفهم في تخصُّصاتهم، وإكسابهم المهارات اللازمة للتمكُّن من موادهم؛ من خلال نقل الخبرات إليهم من قبل مجموعة من المتبحِّرين في هذه العلوم.
ومما يُعظم المردُودات الإيجابيَّة لهذا البرنامج: إعداد المعلمين المستفيدين من البرنامج، واتساع دائرة تخصُّصاتهم من التربية الإسلاميَّة، مرورًا باللغة الإنجليزيَّة، وليس انتهاءً بالكيمياء.
ونتمنى أن يُعمَّم هذا البرنامج الناجح، وأن يكون نواة لمنهاجٍ شاملٍ تساهم فيه مُختلف الجامعات، ويُمكن تطبيقه بأكاديميَّة المعلمين مستقبلاً.
... إنَّ واجبات المُعلم في عصرنا الحاضر، لم تعد هي نفسها التي كانت بالأمس؛ حيث المطلوب من المُعلم اليوم ليس كما كان الحال في الماضي (الوقوف أمام السبورة، والشروع في تلقين الطلاب بلغة منمَّقة بالزخارف اللغويَّة، بينما ينهمكُ الطلاب في التدوين ومحاولة حفظ ما يُلقيه المدرس عليهم؛ باعتباره المصدر الوحيد للمعلومة؛ استعداداً للامتحان، والذي كان بدوره المعيار الوحيد لقياس الفهم والاستيعاب).
لقد تمَّ تجاوز الكثير من المصادر التقليديَّة لاستقاء المعلومة، وتضاعفت المصادر البديلة التي يجب استثمارها وتوظيفها لصالح التعليم؛ عبر مفاهيم جديدة تفتح آفاقاً أوسع للمدارك والفهم.
لم يعد المطلوبُ من المُعلم إثقال أدمغة الصغار بـ"الحشو"؛ لأنّ التقدُّم التكنولوجي -خاصة ثورة الإنترنت- قد وفرت المعلومة بكبسة زر، وجعلتها في متناول الجميع (الصغير قبل الكبير) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث المختلفة.
وفي ظل هذه المعطيات لم يعُد دور المُعلم كما كان في السابق. ومن هنا؛ وجب على نظامنا التعليمي أن يستوعب هذه المتغيِّرات الكبيرة، ويواكب العلوم الجديدة لتحقيق نقلة نوعيَّة في أدائه لرسالته، وحتى تحقق العمليَّة التربويَّة التعليميَّة أهدافها في خلق جيل مستنير متسلح بمهارات عالية، وقادر على مواجهة التحديات المستقبليَّة بثقة.
وهذا يقودنا إلى الشق الثاني من التأهيل، والمرتبط بالجانب المعنوي، وبشخصيَّة المُعلم؛ من حيث ارتباطه بمهنته واقتناعه بها؛ لأن هذا أحد أهم السبل لتجسير العلاقة مع طلابه، وتنمية عامل الثقة في نفوسهم، وفي معلمهم؛ لينظروا إليه باعتباره "القدوة"؛ مما يُسهم في التشكل الإيجابي لشخصيَّاتهم مستقبلاً.
... إنّ إصلاح التعليم يعني بالضرورة إعادة تأهيل المُعلم، ومدَّه بفكر جديد، وأدوات جديدة، ودور مبتكر ومفهوم حديث، وقد لا نتمكن من تحقيق ذلك دفعة واحدة، ولكن من المهم أن نرسِّخ لعلاقة جديدة يكون المُعلم هو محورها الأساس، والمحقق لهدفها الأسمى؛ وهو: تعزيز مفهوم الجودة في التعليم.
... إن التعليم من المهن التي تتطلب التحديث، وتفرض أهميَّة التطوير المستمر للمعلمين؛ لمواكبة الكثير من المتغيرات والمستجدات. ومن هنا؛ لزم الحرص على الاستفادة من المفاهيم الحديثة في المدارس التعليميَّة؛ ومنها: التعليم التفاعلي القائم على تفاعل الطلاب مع بعضهم البعض، ومع معلميهم. وكذا تفاعل المعلمين مع إدارتهم بشكل إيجابي؛ لإيجاد الحلول البديلة لمختلف التحديات التي تواجههم في أداء مهامهم بشكل أفضل وأكثر فاعليَّة. فالحد الأقصى للتعليم يحدث عندما يكون الطالب في بيئة واقعيَّة وثريَّة تثير لديه العديد من المحفزات للمعرفة والتفكير؛ لأننا ندرك -اليوم- أن إمكانيات العقل البشري وكفاءته أكبر من عمليَّة التلقين والحفظ على الطريقة التقليديَّة، وأن عقولنا تستقبل العلم بشكل أفضل عندما يُثير لديها مشاعر قويَّة؛ مما يؤكد أهميَّة إبقاء تركيزنا دائماً على المنهجيَّة والآليات والمهارات وليس على حفظ التعليمات. ونظريات التربية تثبت أن مسؤوليَّة المُعلم تكمُن في تنمية مهارات التفكير لدى الطالب، واستنهاض ملكاته ليقدم أفضل ما لديه.
وتتطلب مهنة التدريس في عصر المعلومات التجديد والتطوير المستمر لإمكانيات المعلم، ومن هنا تبرز ضرورة التطوير الذاتي، والاستفادة من البرامج المقدَّمة عبر ورش العمل والمحاضرات...وغيرها من وسائل؛ تهدف إلى تجديد المعلومات، ومواكبة التطوُّر العلمي، وتعزيز مهارات المُعلم في التعليم وإدارته.
... إنَّ المُعلم الحديث -على خلاف التقليدي- يكمُن دوره الشمولي في خلق بيئة محفزة للطلاب، وإشعال جذوة الحماس في نفوسهم نحو التفكير والابتكار والإبداع؛ بعيدًا عن التلقين والحفظ. ولم يعُد هناك مجال لتقسيم الفصل لطلاب موهوبين متفاعلين يتقدَّمون الفصل، وآخرين كُسالى يجلسون في الخلف دون أن يعبأ بهم أحد. ينبغي أن يكون مُعلم العصر موقناً بأن كل طالب يحمل في دواخله قدرات ومواهب وإمكانيات، وأن يجعل من مهمَّته الرئيسيَّة تحفيزهم لإبراز هذه القدرات وإظهارها للعلن. فكم من طالب موهوب ضاعت موهبته بسبب عدم التحفيز الكافي من معلمه أو مجتمعه المحيط؟!! وكم من قدرات خلاقة كان مصيرها الهدر لأنها لم تحظَ بالاهتمام اللائق بها؟!!
يتوجَّب على مُعلم اليوم -وفي ظل تعدد نوعيَّة الطلاب داخل الفصل الدراسي الواحد- التعامل بمرونة خلاقة تتكيَّف مع مختلف القدرات والإمكانيات للطلاب؛ حيث يُنتظر منه تعزيز نقاط القوة المختلفة لدى الطلاب، ومعالجة نقاط الضعف لتجاوزها بشكل أمثل.
فالفارق بين المُعلم في السابق، والمُعلم في وقتنا هذا، هو أن الأول كان دوره ينحصر في التلقين، بينما يتوقع من الأخير أن يكون متفاعلاً مع المستجدات العلميَّة والتقنيَّة، وفي الوقت ذاته يقوم بدور المرشد والمحفز والموجه للعلم والمكتشف للقدرات.
وكما هو معلوم؛ فإن اللغة أداة بالغة التأثير في التعبير، وهو ما يفرض على معلم اليوم اكتساب مهاراتها الإيجابيَّة؛ لأن كلمة قاسية واحدة يمكن أن تؤثر على طالب مدى الحياة، والعكس صحيح؛ فاختيار المفردات يجب أن يكون ضمن قاموس المعلم للتفكير الإيجابي؛ فالمُعلم المتفوق هو من يمتلك قاموسًا حافلاً بالمفردات الإيجابيَّة، ولا يعرف عبارات الزجر والنهي من شاكلة: "لا تفعل هذا، ولا تفعل كذا، وإلا..."؛ لأن هناك الكثير من الطرق والوسائل اللغويَّة الإيجابيَّة التي يُمكنها أن تعزز قدرات الطالب بعيداً عن التهديد والتخويف.
وحتى لا يقول المُعلم إننا نحمِّله كل العبء، ونتجاهل الأطراف الأخرى في العمليَّة التعليميَّة، نشير في هذا المقام إلى دور الأسرة في تهيئة الطفل للتعلم؛ وبالتالي استيعاب ما يود المُعلم إيصاله؛ فالملاحَظ اليوم أن العديد من صغارنا يخطون خطواتهم الأولى إلى المدرسة وليس في جعبتهم من المعرفة سوى كلمات عربيَّة ركيكة من تأثير عاملات المنازل الآسيويات، وهنا تتزايد تحديات المُعلم لإزالة مثل هذه التشوهات في سنوات التعليم الأولى؛ حتى لا تؤثر على الأداء التحصيلي للطالب مستقبلاً.
... إن دور الأسرة كبير في دعم المُعلم لأداء رسالته على الوجه الأكمل؛ من خلال المتابعة المستمرة للأبناء بما يُهيِّئ للمُعلم بيئة طلابيَّة قادرة على التفاعل والتطور.
لذا؛ أرى أنَّ من التحديات التي تواجه العمليَّة التعليميَّة في بلادنا غياب الشراكة بين الأسرة والمدرسة. وهنا لا أعني الشراكة المظهريَّة التي تجسدها اجتماعات مجالس الأمهات والآباء في مدارسنا، بل الشراكة الحقيقيَّة التي تغوص عميقاً في مناقشة الفعل التربوي والتعليمي.
إننا نحمِّل المُعلم فوق طاقته، إن ألقينا على كاهله بكافة المسؤوليات المتعلقة بالعمليَّة التعليميَّة والتربويَّة، بل ينبغي أن ننهض بما علينا من مسؤوليات تجاه هذا الواجب المقدَّس، وهو تربية أبنائنا، والإسهام في تمليكهم المهارات اللازمة.
نخلص إلى أن الوصول بالتعليم إلى غاياته المرجوَّة، يحتاج إلى مُعلم مؤهَّل وقادر على النهوض برسالته السامية لبناء جيل يمتلك أدوات المعرفة ومتسلح بالقيم لقيادة نهضة الوطن وتقدمه.