سعيدة بنت أحمد البرعمية
عندما كتب نزار قباني قصيدته "راشيل" التي اختصرت التَّخطيط الغربي للنكبة وما حلَّ بالشعب الفلسطيني من اغتصاب لأرضه وخذلان أشقائه العرب له، استهلها بقوله: "أكتب للصغار" كان يدرك مدى هشاشة الأمة حينها وما اعتملته فيها الأمم المتحدة وما ألمَّ بها من أخطاء الكبار وتوقيعهم معاهدات السلام، والتي بدورها أباحت التنازلات وآلت بالأمة إلى الدمار تحت شعار السلام، لذا لم يوجه خطابه سوى للصغار، إيماناً منه بقوة الأجيال، وبالفعل توالت انتفاضات الصغار وما زالت تنتفض، الانتفاضة تلو الأخرى لاستعادة ما "اغتصبته راشيل" ولإصلاح ما أفسده الكبار.
لمن المنبر بعد المُلثم؟
عندما نسأل طفلا لم يتجاوز عمره ثمان سنوات، ماذا تريد أن تكون؟ ويجيب بكل بيقين: "أريد أن أكون أبو عبيدة"؛ فهذا يعكس مدى تأثير هذه الشخصية في نفوس الصغار؛ فلم يكن الناطق الرسمي للقسام مجرد إعلامي يقرأ صفحات معدة مصاحبة بمؤثرات صوتية ومرئية وأناقة الملبس وعلى وجهه طبقة عالية الجودة من الكونسلر والفاونديشن، كما اعتدنا أن نشاهد على قنوات الأخبار، كان يظهر بحلة الحرب التي لا توحي بأي سرور، وكان يبدو غامضا لا يستطيع أي منَّا تخيل ملامحه، ولطالما أمعنا النظر في عينيه وهيئته ونبرة صوته ومخارج الحروف لديه، وبالرغم من كل الغموض المحيط به إلا أنه ثمَّة شغف مضاعف لجعل جميع الحواس آذانا صاغية لسماعة، والتوقف عند شتى المفردات التي يبعثها من معاجم اللغة القديمة مجبرا قنوات الأخبار على بثها وتداولها بالرغم من سطوة لغة العصر وكثرة اللهجات، لقد كسب إعجاب الصغار وأخذوا يقلدونه في الهيئة والخطاب، مما جعل شخصيته تستحوذ على عقول النشء ويتأثرون به، لهذا لم يمت أبو عبيدة؛ بل تقاسمته نفوس الصغار، إنه أحد الصغار في قصيدة نزار الذي سيُولد بلا شك طوفانا عظيما من الصغار.
لا شك أن للصغار قدرة على اعتلاء منبر الملثم، فالأيام تثبت لنا مع الزمن قوة الصغار، فهم المعنيون باستلام الراية دون استسلام، فحين أقول لا يوجد في الوطن العربي بيت لا يخلو من أبي عبيدة فإني لا أبالغ.
في هذا المقال لن أكتب عن أبي عبيدة، هُنا أكتب على نهج نزار إيمانا أنَّ الأقصى على موعد مع الصغار.
لقد شهد تاريخ المقاومة بالفعل ما قام به الصغار، بدءًا بالهبات ما بعد النكبة، والتي استمرت لعدة سنوات بالرغم من أنها لم تكن انتفاضات منظمة بالكامل؛ إلا أنها مقاومة شعبية بأدواتها البسيطة وقوة عزيمتها ضد الاحتلال، شملت محاولات عودة اللاجئين وعمليات فدائية ضد الاحتلال، مروا بهبة يوم الأرض إثر احتجاجات واسعة لإيقاف مصادرة الأراضي الفلسطينية، ومن ثَم انتفاضة الحجارة التي اندلعت في قطاع غزة والضفة الغربية تلتها انتفاضتا الأقصى الأولى والثانية، بعد اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى، خلفت الآلاف من الشهداء والمصابين من الجيل الذي كتب إليه نزار، تلا ذلك مجموعة من الهبات والمسيرات كهبة القدس وهبة باب الأسباط ومسيرات العودة الكبرى وهبة سيف القدس، وكانت واحدة من أعنف الهبات في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، أظهرت وحدة الشعب الفلسطيني وقوة تمسكه بأرضه مهما بلغت الخسارة، وصولا إلى طوفان الأقصى الذي غير مجرى الأحداث وما صاحبه من حروب في المنطقة برمتها، مما يدل على أن الكتابة للصغار هي الأجدى، وأن الصغار لديهم من القدرة ما يجعلهم يستوعبون ما يكتبه الكبار، وهذا ما يجعلنا ككتاب نكتب، فالكتابة لم تكن يومًا إلا للصغار.
هُنا لن أنعي أبا عبيدة؛ إنما أُذكر الصغار أنه كان أحد الصغار الذين فهموا قصة "راشيل" وعملوا على مكافحتها بسلسلة من الانتفاضات قادها الصغار، الأخير منها طوفان مفصلي غير مجرى الأحداث، وقلب الطاولة بما عليها، وكتب تاريخا لم يُكتب من قبل، عليكم أيها الصغار "براشيل" إرهابية مجندة، قضت سنين الحرب في زنزانة منفردة، شيدها لها الألمان في براغ (عاصمة التشيك)، أبوها من أقذر اليهود، يُزوِّر النقود، وهي تُدير منزلًا للفُحش في براغ يقصده الجنود، هكذا هي حرفيًا كما وصفها نزار، يُخبر بخساستها ونسبها الآثم وهشاشة عقيدتها، يخبرهم أنها إلى زوال على أيديهم هم الصغار.
