الطفل الذي لا يلفت الانتباه.. هل نخذله دون أن نشعر؟

 

 

 

وفاء اليعقوبية **

 

«بعض الأطفال لا يحتاجون من يرفع صوتهم؛ بل من يلاحظ أنهم صامتون أكثر مما ينبغي».

في كل صف دراسي، هناك طفل لا يُذكر اسمه كثيرًا.

لا يثير المشكلات، ولا يرفع صوته، ولا يتصدر المشهد. يجلس في مكانه بهدوء، يؤدي ما يُطلب منه، ويغادر الحصة دون أن يترك أثرًا واضحًا في الذاكرة. هو ليس متعثرًا لنقلق عليه، ولا متفوقًا لنحتفي به. إنه فقط… حاضر بصمت.

لكن السؤال الذي يستحق أن نُعيد التفكير فيه هو: هل هذا الطفل بخير فعلًا؟ أم أننا نخذله دون أن نشعر؟

غالبًا ما يذهب انتباهنا في المدرسة إلى طرفين متناقضين: الطالب المشاغب الذي يستنزف الجهد، أو الطالب المتفوق الذي يحصد الثناء. وبين هذين الطرفين، يقف الطفل الهادئ في منطقة رمادية، لا تستدعي تدخّلًا عاجلًا، ولا تثير تساؤلًا. فنفترض أنه بخير، فقط لأنه لا يطلب شيئًا.

«الاهتمام الحقيقي لا يذهب لمن يطلبه، بل لمن يحتاجه دون أن يعرف كيف يطلبه».

غير أن الصمت، في عالم الأطفال، لا يعني دائمًا الرضا.

قد يكون الصمت انسحابًا، أو خوفًا من الخطأ، أو شعورًا خفيًا بعدم الأهمية. ومع مرور الوقت، يتعلّم هذا الطفل أن وجوده لا يُحدث فرقًا، وأن صوته ليس ضروريًا، فيكتفي بالمراقبة بدل المشاركة، وبالانزواء بدل المبادرة.

وحين نُهمل هذا النوع من الأطفال، فإننا لا نخذلهم بإهمالٍ صريح، بل بإهمالٍ صامت… وهو الأخطر.

إهمال لا يُسجَّل في التقارير، ولا يظهر في النتائج، لكنه يترك أثره العميق في الثقة بالنفس، وفي صورة الطفل عن ذاته.

المعلم هنا ليس مطالبًا بأن يصنع ضجيجًا حول كل طالب، لكنه مطالب بأن يرى الجميع. أن يسأل الطفل الهادئ عمّا يشعر به، لا عمّا أنجزه فقط. أن يمنحه فرصة للتعبير، ومساحة آمنة ليخطئ ويتعلّم دون خوف. كلمة تشجيع صادقة، أو نظرة اهتمام، قد تكون كفيلة بإعادة هذا الطفل إلى المشهد.

وكذلك الأسرة، حين تكتفي بطمأنة نفسها بأن طفلها «لا يشتكي»، قد تغفل عن احتياجه الحقيقي للاحتواء. فبعض الأطفال لا يملكون الشجاعة ليطلبوا الاهتمام، لكنهم يحتاجونه بعمق.

«ليس كلُّ الصامتين راضين، ولا كلُّ الحاضرين مرئيّين».

ولعلّ أخطر ما قد يواجه الطفل الهادئ هو أن يعتاد الغياب؛ أن يكبر وهو يظن أن حضوره لا يستحق الالتفات، وأن رأيه مؤجَّل دائمًا. ومع الزمن، لا يختفي صوته فقط داخل الصف، بل قد يخفت داخله أيضًا. هنا تتجلّى مسؤوليتنا التربوية في أن نُعيد تعريف "الاهتمام"، لا بوصفه مكافأة للسلوك الصاخب أو التفوق اللافت، بل حقًّا إنسانيًا لكل طفل.

فحين نمنح الطفل الهادئ فرصة ليُرى ويُسمع، نمنحه ما هو أثمن من الدرجات: الإحساس بالقيمة. وحين يشعر الطفل أنه مرئي، يصبح أكثر شجاعة على المشاركة، وأكثر ثقة على المحاولة، وأكثر استعدادًا للحياة. تلك اللفتة الصغيرة قد لا تُغيّر يومًا دراسيًا فحسب، بل قد تُغيّر مسار إنسان.

«وكم من هدوءٍ في الطفولةِ شاهدٌ على صوتِ قلبٍ لم يجد من يُصغي له».

فلننظُر جيدًا إلى المقاعد الخلفية، وإلى الوجوه الصامتة، وإلى الأطفال الذين لا يُطالِبون بشيء.

فربما يكون إنصافهم هو أول خطوة نحو تربية جيل يشعر أنه مرئي، ومسموع، ومهم… حتى دون أن يرفع صوته.

** مُديرة مدرسة

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z