◄ من طيات النضج يأتي الإقرار بالمسؤولية، لا لوم فيه ولا تبرير، بل وعي شامل بقيمة الأداء وتأثيره على مهام وجودك ورسالتك
فاطمة الحارثية
اجتمعنا على سمرة، وكما هو معروف عن تأثير الليل على وعينا، ومخرجات الحديث، قالت: "ليتني التقيت بكِ سابقا"- وغابت عيناها في استغراق عاطفي عميق- لم أُبدِ ردة فعل لقولها، حتى لا يكون لجلستنا الطيبة شجون، ومضى المساء، وتعاقبت الأيام، إلى أن رأيتها صدفة في إحدى المناسبات متجهة نحوي وعلى محياها ابتسامة جميلة، بصوت مُعبر قالت: شكرا لك؛ قابلت تعابير وجهها وهي تسكن ذاكرتي بالتِّرحاب وقلت لها: الشكر لله، كل شيء بوقته.
قد يسأل البعض عن قصدها في كلا القولين، وأتمنى أن تصدقوني إذا قلت إنني لا أعلم؛ للناس حق الاحترام ويبدأ بحفظ موقفه وتقدير وضعه، ليس علينا أن نعلم كل شيء، ولا أن ندخل في ذوات الآخرين لنقدر ظروفهم، فعدم العلم ستر واجب، وعدم السؤال يُبقي الود وأبواب العودة، وإن رغب الشخص بالبوح حُسن الإصغاء أدب، وإلا فرفض الاستماع دون تجريح.
مع مضي الوقت وتعاقب التجارب، أجد أن العلاقات لا تكفيها المودة والحب، ولا العطاء والاحترام، فالنضج عامل مهم يرأف بعواطفنا، ومواقفنا بين طيات الظروف والأحداث تصعيدا أو احتواءً، ومع بدء العام الجديد نجد البعض مُثقل بتجارب مختلفة، وذاكرة لا تمحي شيئا، رغم التناسي والتغافل، وبعض الاستسلام، هكذا، صنعنا نحن البشر لأنفسنا حق الحساب والتحاكم، رغم علمنا المؤكد أننا لسنا مؤهلين لذلك لحدود علمنا بالحقائق، وكم من غيب أضاع الحقوق، وحسبنا معها أننا أنصفنا ونحن من الظالمين، وكم من عاطفة غشت على آذاننا واتبعناها، ونحن نعلم علم اليقين أننا نقود أنفسنا نحو الظلام والظلال المبين.
لا عائدَ حقيقيًا من عِلم أو جهد ما لم يُصقله نُضج وحكمة، والكثير من العلاقات تُوأَد لأنها مبنية على الحاجة وليس النضج، وربما هذا ما جعلني أفقد عمق العلاقات والكثير منها، فمُعظم الناس يستندون في علاقاتهم على الحاجة، وبالنسبة لي الحاجة قبل أن تكون ضعفا، هي تشكيك في القدر وحكم الله فينا؛ وما دمنا على الأرض نسعى، فهذا يعني أننا نؤدي ما قد خُلقنا لأجله ورسالتنا تمامها في الموت وليس في الأزمات، بالتالي وهم الحاجة مرادف من مرادفات الشهوات، أي ضعف وشك وطمع، فما هو لي يأتي بإذن الله، وما أخطأني فرحمة منه.
من طيات النضج يأتي الإقرار بالمسؤولية، لا لوم فيه ولا تبرير، بل وعي شامل بقيمة الأداء وتأثيره على مهام وجودك ورسالتك، فإمَّا أن تستغل أو تُستغل أو تستفيد وتُفيد، في عموم السعي، ومهما كان حُلمك وعظيم شأنك إن لم يكن رضا الله الغاية الأسمى من الأحلام والأهداف والسعي في تنفيذها، فلا تلُمْ إلّا نفسك لما يحدث لك، فحتى حلم أن تكون من كبار المسؤولين لا بُد أن يكون في طياته تفعيل أمر الله في خلقه، وبث العدل والعمل النافع الصالح، وإلّا فحلمك وإن تحقق لن يعتقك من نار الفتنة وعواقبها.
وإن طال..
الاعتراف بالخطأ عند البعض جزء من غرورهم، لأنَّه لا يتضمن الندم والسعي نحو الإصلاح، فلا يُغرّك اعتراف أحدهم، ولا يستفزك حال "نعم أخطأت، ماذا ستفعل أو تستطيع أن تفعل لي؟"، ابتسم وامضِ فثمَّة من يسمع القول ورده عاجلا غير آجل.
