البنوك لا تنهار.. الناس هم الذين ينهارون

 

 

 

محمد أنور البلوشي

دعني أبدأ بمشهد ما زال ثقيلًا في ذاكرتي. كان رجل يجلس بجانبي في مكتب سند، على بُعد خطوات قليلة من قاعة المحكمة- لا يفصل بينه وبين "مسرح العدالة" سوى 20 مترًا فقط. فقدَ وظيفته، والبنك رفع عليه قضية لأنه لم يعد قادرًا على دفع الأقساط الشهرية.

قال بصوت منخفض وهو يحدّق في الأرض: "من الصعب على الرجل أن يجلس في البيت مع أسرته وهو لا يكسب شيئًا". ثم أشار إلى فتاة صغيرة تجلس بهدوء في الزاوية: "ترى تلك الفتاة؟ إنها ابنتي… علينا الذهاب إلى المحكمة." كان صوته ثابتًا، لكنه مكسور من الداخل. وأضاف الجملة التي لخصت المأساة كلها: "البنوك لا تعفي أحدًا من الأقساط.. وإن فشلنا في السداد سندخل السجن". جلست أستمع إليه، عاجزًا عن قول كلمة واحدة. حياته كانت قد انهارت بالفعل- أما البنك الذي اتهمه.. فما زال واقفًا شامخًا.

البنوك تمتلك امتيازًا استثنائيًا؛ فهي تواصل البقاء فيما تنهار قطاعات أخرى. خلال الأوبئة، والركود، والحروب والصدمات المالية العالمية، حين تُغلق المصانع، وتُقفل المتاجر، وتختفي مصادر الرزق، تظل البنوك صامدة. صمودها ليس معجزة طبيعية؛ بل نتيجة هندسة اقتصادية وسياسية ومجتمعية جعلت من البنك ليس مجرد مؤسسة، بل عمودًا فقريًا للسلطة.

التاريخ يفسّر كيف صُمم هذا النظام. بعد انهيار عام 1929، حين فقد الملايين وظائفهم وتلاشت آلاف البنوك في الفوضى، أدركت الدول أن سقوط البنوك يعني سقوط المجتمع نفسه. هنا ظهر الاقتصادي جون ماينارد كينز كمهندس عقيدة اقتصادية جديدة: "الاقتصاد يجب أن يُدار.. لا أن يُترك للقدر".

أنشأت الحكومات أدوات مثل ضمان الودائع، ومنحت البنوك المركزية سلطة “المُقرض الأخير”. كان كينز يرى أن التدخل ضرورة للاستقرار، لكنه أيضًا حذر من أن النظام المالي إذا انفصل عن احتياجات الإنسان، فإنه يهدد النسيج الاجتماعي. هذا التحذير اليوم يرنّ بصوت أعلى من أي وقت مضى.

أزمة 2008 كانت مثالًا حيًّا على ابتعاد البنوك عن البشر الذين يتأثرون بها. لم يكن الانهيار بسبب جفاف أو حرب- بل بسبب الطمع البشري، والإقراض المتهور، والمضاربات المالية. ومع ذلك- لم يُعاقب الفاعلون الحقيقيون. الحكومات أنقذت البنوك بتريليونات الدولارات، بينما خسر الناس منازلهم وأفلس أصحاب الشركات الصغيرة.

الاقتصادي ثورستين فيبلن، الذي درس ثقافة النخب الاقتصادية، كان سيقول إن الطبقة المصرفية تحافظ على مكانتها عبر "الهيكل"، لا عبر "المساهمة"؛ فالثروة تستمر دون مساءلة.

البنوك اليوم تشبه إمبراطوريات صغيرة. في أبراجها الزجاجية، يتقاضى التنفيذيون رواتب بملايين، ومكافآت، وحزم أسهم، حتى في سنوات الخسارة وتقليص الموظفين. وفي المبنى ذاته… يقف المواطن العادي في الطابور يناشد إعادة 5 ريالات عُمانية خُصمت من حساب لا يحتمل خصمًا واحدًا!

فريدريك هايك حذّر ذات يوم: حين تصبح المؤسسات شديدة المركزية، فإن من يسيطر عليها يُعيد تشكيل المجتمع وفق صورته. والنظام المصرفي مثال صارخ على ذلك.

مفارقة التمويل الحديث صامتة… لكنها قاسية. المودعون يسلمون أموالهم للبنوك مقابل عائد ضئيل. ثم تعيد البنوك إقراض المال ذاته للمجتمع بفوائد ضخمة تُكبّل المقترض لعقود. الجمهور يغذي النظام… والأرباح تغذي القلّة.

هيمان مينسكي، صاحب "فرضية عدم الاستقرار المالي"، رأى أن التمويل يتسع بجنون في الرخاء ثم ينهار مع تراجع الثقة. ولكن اليوم… يُمنع الانهيار- ليس لصالح المواطن- بل لأن البنوك أصبحت "أكبر من أن تفشل". تُحمى كما لا يُحمى الإنسان.

علم الاقتصاد السلوكي يضيف زاوية أخرى. ريتشارد ثالر يوضح أنَّ الأنظمة قد تُصمم لدفع الأفراد نحو خيارات لم يكونوا ليختاروها. وهذا ما يجيد فعله القطاع المصرفي: بطاقات ائتمان تُقدّم كترقية للحياة، قروض تُسوق كأحلام تتحقق، رهن عقاري يُباع كرمز للنجاح. يصبح الدين هوية… ويصبح السداد مصيرًا. الطالب الذي يقترض للدراسة قد يقضي نصف حياته يسدد- بينما يحصل مدير بنك على ما يعادل أجر عدة عقود في سنة واحدة.

جائحة كورونا كشفت حجم الفجوة. توقفت الطائرات، أُغلقت الفنادق، تجمدت السياحة، اختفت المطاعم، لكن البنوك واصلت عملها دون انقطاع. ليس لأنها مؤسسات رحيمة؛ بل لأن الحكومات تعتمد عليها. المال يجب أن يدور. الرواتب يجب أن تُدفع. الديون يجب أن تستمر. البنوك لم تعد مجرد وسيط مالي- بل أصبحت أداة سياسية للبقاء.

ومع ذلك، لا يجب أن يظل الأمر هكذا. التمويل لم يبدأ مع البنوك، ولا يجب أن ينتهي معها. أنظمة الائتمان التعاوني في ألمانيا في القرن التاسع عشر قامت على تمكين المجتمعات من إقراض نفسها. اليابان في عهد إيدو استخدمت دوائر ائتمان قائمة على الثقة لا على الضمان. وفي العصر الإسلامي الذهبي، ازدهر التمويل على عقود تشارك في الربح والمخاطرة معًا.

التقنية اليوم تفتح أبوابًا جديدة: العملات الرقمية التي تلغي المركزية، منصات الإقراض بين الأفراد، التعاونيات الرقمية التي تجعل المودعين "ملاكًا" لا "ضحايا". ونماذج موجودة فعلًا- بنوك عامة مثل "بنك نورث داكوتا" تعيد أرباحها مباشرة إلى التنمية المجتمعية.

تخيّل اقتصادًا مبنيًا على الكرامة. الطالب لا يسدد إلا بعد أن يجد وظيفة. الفلاح يسدد بعد الحصاد لا تحت تهديد فقدان الأرض. المودع يحظى بعائد عادل لأنه شريك لا متبرع. المدير التنفيذي لا يتقاضى مكافأة إلا إذا ارتفع مستوى رفاه المجتمع معه. يصبح المال خادمًا… لا حاكمًا.

انتقاد البنوك ليس دعوة للفوضى؛ بل طرح لسؤال أخلاقي: هل ما زالت مؤسسة وُلدت قبل قرن قادرة على خدمة مجتمع اليوم؟ الاستقرار بلا عدالة ليس ازدهارًا؛ بل ظلم يرتدي بدلة رسمية.

البنوك لا تنهار لأنَّ العالم لا يسمح لها أن تنهار. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه: هل نظام يُلقي بثقل الثروة على أكتاف الضعفاء- بينما يُبطّن الأرض تحت أقدام الأقوياء- يستحق أن يبقى مقدسًا؟

لقد أعادت الحضارات كتابة قواعد الاقتصاد مرارًا. انهارت الممالك. تبخرت الإمبراطوريات. وربما يأتي يوم ينظر فيه أحفادنا إلى بنوك اليوم… ويتساءلون بدهشة: لماذا حمت البشرية المؤسسات أكثر مما حمت البشر؟

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z