أبو عبيدة.. حين يترجل الجسد ليخلِّد المبدأ

 

 

 

محمد بن علي بن ضعين البادي

في لحظاتٍ استثنائية من عمر التاريخ، لا تقتصر الدموع على العيون؛ بل تبكي المعاني أنصارها، ويُخيم صمتٌ مهيب يثقل فيه الهواء بما لا يُقال. هي تلك اللحظة التي يغيب فيها الصوت الذي كان يُوقظ الضمائر النائمة؛ لا لأن صاحبه مضى كعابر سبيل؛ بل لأنَّ "الصدق" حين يُستهدف، ندرك يقينًا أننا كنَّا أمام رجلٍ لم يطأ الأرض بصفةٍ عادية؛ بل مرَّ فوقها كقدرٍ محتوم.

لم يكن "أبو عبيدة" مجرد ناطقٍ عسكري، ولا صدىً عابرًا في ضجيج الحروب؛ بل كان "ظاهرةً وجدانية" تشكلت في الوعي الجمعي، وانتشرت كالقناعات الراسخة التي لا تزعزعها الأنواء. لقد تجاوز حضوره حدود الميكروفون، وعبرت كلماته رمال اللحظة الراهنة، حتى استحال اسمه مرادفًا للثبات، وصوته دستورًا لمرحلةٍ اختلط فيها الدم بالكلمة، واشتبك فيها السلاح بالمعنى.

لم يبعْ "أبو عبيدة" الأوهام في سوق النخاسة الإعلامية، ولم يتحدث بلغة الاستهلاك الباردة؛ بل كان ينطق بلسان الميدان؛ كما هو؛ بلا تزويق ولا تهويل. كان يقرع الأسماع بمرارة الحقيقة: أن المعركة طويلة، وأن الثمن باهظ، وأنَّ النصر لا تشيده الشعارات الجوفاء؛ بل تبنيه التضحيات الجسيمة. كان صريحًا إلى حد القسوة، صادقًا إلى حد الإيلام؛ لذا لم ينتظر الناس بياناته فضولًا؛ بل "إيمانًا"، لأنهم أيقنوا أنَّ ما يتلوه ليس وعدًا سياسيًا؛ بل ترتيلٌ ميداني نابع من قلب النَّار.

ما قاله "أبو عبيدة" لم يُحبس في الردهات أو بين النخب؛ بل تسرّب إلى الشوارع، واستوطن البيوت، وحفظه الصغار قبل الكبار كأناشيد الصمود. لم يكن ذلك مصادفة؛ بل لأن خطابه كان عاريًا من التعقيد، مشبعًا باليقين؛ ففهمه العربي والأعجمي على حد سواء، لأن لغة الحق حين تخرج من مشكاة القلب لا تحتاج إلى مترجمين.

ولم يتوقف زلزال تأثيره عند المحبين؛ بل ضرب أعماق الكيان؛ فكان الخصوم يترقبون كلماته بحذرٍ يشوبه الرعب، يحللون نبرته حرفًا حرفًا كشفراتٍ عسكرية حاسمة. كانت كلماته تهدم سردياتهم، وتفضح هشاشة أمنهم المزعوم، مؤكدًا للعالم أن المعركة ليست في الميدان فحسب؛ بل هي "معركة وعي"، ومن يمتلك الكلمة الصادقة، فقد حاز نصف النصر.

لقد تمددت هذه الظاهرة خارج حدود الجغرافيا وضيق الأيديولوجيا، لأنه خاطب "الإنسان" في كبريائه، و"المقاوم" في حصاره، و"الحُر" في رفضه للإذلال. كان يؤمن أن الأرض لا تُحرر بمداد الحبر، وأن الدم ليس مجرد رقم في إحصائية، وأن العدو لا يفيق من سكرته إلا حين تتهاوى أساطيره تحت أقدام الحقيقة.

وحين ترجل الفارس، وكُشف اللثام عن الاسم، لم تكن المُفاجأة في "الهوية"؛ بل في "الخلود". لقد أثبت أن العظماء لا يُعرفون ببطاقات هوياتهم؛ بل بما يزرعونه في وعي الأمة، وأن القادة الحقيقيين قد يسترون وجوههم لتظهر المبادئ، ويغيبون بأجسادهم لتبقى الفكرة حيةً لا تموت. رحل "أبو عبيدة" كما يرحل الأنقياء؛ ثابتًا كالجبل، واضحًا كالشمس، لم يبدل تبديلًا.

لم يكن شخصًا؛ بل كان "مدرسةً في أدب المقاومة"، ونموذجًا في اليقين الذي لا يتطرق إليه الشك. رحل الصوت، لكن الصدى سيبقى يتردد في جنبات الأقصى، وبقيت فلسطين تنطق من خلاله بما عجز العالم كله عن قوله.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z