أن أكون.. دون استعجال

 

 

كلثوم الحسنية

ليست الأعوام وحداتٌ زمنية متشابهة كما نظن أحيانًا. فبعضها يمر علينا كرقم يُضاف إلى العمر، بينما يمر بعضها الآخر كتحولٍ داخلي صامت، يبدّل طريقة رؤيتنا للأشياء دون أن يُعلن عن نفسه. وهناك أعوامٌ لا تزيد أعمارنا بقدر ما تُعيد تشكيل وعينا، تجعلنا أهدأ في أحكامنا، وأكثر انتباهًا لتفاصيلنا، وأقل استعجالًا في فهم أنفسنا وتقييم مساراتنا. أعوامٌ لا تغيّر ما نملكه، لكنها تغيّر كيف ننظُر إليه.

هذا العام لم يأتِ بالإجابات الجاهزة، لكنه علّمني كيف أعيش مع الأسئلة دون توتر، وكيف أقبل فكرة أنَّ بعض الأسئلة لا تُحل سريعًا؛ بل ترافقنا فترة من الزمن. علّمني أن القلق ليس دائمًا علامة ضعف؛ بل قد يكون في أحيان كثيرة دليل وعي يتّسع. وأن التغير الحقيقي لا يحدث دفعةً واحدة كما نرجو؛ بل عبر انزياحاتٍ صغيرة، تكاد لا تُرى في لحظتها، لكنها تصنع فرقًا حقيقيًا حين ننظر إلى الوراء.

عدتُ هذا العام إلى العائلة، لا كفكرةٍ مثالية؛ بل كحقيقة واضحة فرضتها الظروف. جعلني خوفُ الفقد أمام بساطة صادقة تقول إنهم الأهم، ليس لأنني لم أكن أعلم ذلك من قبل؛ بل لأن بعض القناعات لا تترسّخ إلا حين نُجبر على التوقف، وحين نفقد - ولو قليلًا -شعور السيطرة. هناك فقط أدركت أن العائلة لا تعوّض أبدًا ولا يتقدّمها شيء في الأولوية.

هذا العام لم يصنع التحول، لكنه أخرجه إلى الضوء؛ حيث إني اخترت تغيير المسار رغم غموضه، لا لأن الطريق كان واضحًا؛ بل لأنه كان أقرب إلى أحلامي، وأكثر صدقًا مع حقيقتي. أدركت أن الوضوح ليس شرطًا للبدء، وأن كثيرًا من القرارات الشجاعة تُتّخذ ونحن لا نملك سوى الإحساس الداخلي بأنها تشبهنا، حتى وإن لم نعرف إلى أين ستقودنا تمامًا.

ومن هنا، تغيّرت علاقتي بالإنجاز. لم يعد مقياسًا للقيمة، ولا ضمانًا للطمأنينة؛ بل فِعلًا أضعه في مكانه الطبيعي. شيء أفعله، لا شيء أكونه. وحين نزعتُ عنه هذا العبء الثقيل، خفّ الحمل، وصار السير ممكنًا دون شعور دائم بالاختبار، ودون حاجة مستمرة لإثبات الذات أمام نفسي قبل الآخرين.

علّمني هذا العام أن فكرة "النسخة المثالية" فكرة مرهقة، وأن الإنسان لا يُطلب منه أن يصل؛ بل أن يحضر. أن يعيش نسخته الحالية بصدق، وأن يسمح لها بالتغيّر حين يحين الوقت، دون جلدٍ للذات، ودون استعجالٍ للنتائج.

ومع أنّ الخوف مازال حاضرًا، لكنه لم يعُد كما كان. لم يعُد صوتًا يُهيمن ويوجّه؛ بل همسًا أعرف كيف أسمعُه دون أن أتبعه. تعلّمت أيضًا أن أفرّق بين الخوف الذي يحميني، والخوف الذي يقيّدني، وأن أحتفظ بالكلمات التي قيلت لي بمحبّة لا كدليل إثبات؛ بل كتذكيرٍ صادق حين أحتاجُ إلى الثبات والإيمان بنفسي.

وفي منتصف هذا الوعي، التفتُّ إلى نفسي. إلى النسخة التي صرتُ عليها مع مرور التجربة. نسخة لم أصل إليها بالقفز؛ بل بالمكوث الطويل في المسافة بين الشك واليقين. وتعلّمت أن أبقى هناك دون فزع، وأن أسمح للأسئلة أن تؤدي دورها الطبيعي. وصرت أحب هذه الإنسانة، لا لأنها مكتملة؛ بل لأنها صادقة في جميع محاولاتها للوصول إلى ذاتها.

واليوم أدرك أنني أعيش ما كنت أدعو الله به، ولو بصيغٍ مختلفة عما تخيّلته. وأدركُ أيضاّ أنّ الامتنان لا يمنعُ الحزن؛ بل يمنحهُ عمقًا إنسانيًا. وأحزنُ أحيانًا على أشخاصٍ مرّوا في حياتي ولم يشهدوا كيف تغيّرت، لكن عزائي أنهم عرفوا قلبي، وهذا القلب لم يتغيّر، حتى وإن تغيّرت الطرق والاختيارات.

ومع اقتراب نهاية العام، لم أعد أبحث عن بدايةٍ جديدة بقدر ما أبحث عن استمراريةٍ أكثر وعيًا. فَالعام القادم- بإذن الله- لا أريده مختلفًا في شكله، أريده أصدق في جوهره، أقل ضجيجًا، وأكثر انسجامًا مع ما صرتُ أعرفه عن نفسي. أريده عامًا أعيش فيه مزيدًا من العوض الجميل بعد الصبر الجميل، وأن أثق بنفسي دون تردّد، وألّا أخاف من توهّجي وقدراتي، وأن أكسر القوالب بأغصاني التي تنمو على مهل.

لأنّ ما تعلّمته هذا العام لم يكن وعدًا بالوصول، ولا بحثًا عن صورةٍ نهائية؛ بل تدريبًا هادئا على أن أكون… دون استعجال.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z