أحمد الفقيه العجيلي
لا يُمكن فهم بعض التحوّلات الاقتصادية التي نعيشها اليوم بمعزل عن جذورها التاريخية؛ فالعلاقات بين عُمان والهند لم تتشكّل فجأة، ولم تكن وليدة العقود الأخيرة؛ بل امتدت لقرون طويلة، تداخل فيها التجاري بالسياسي، والتعايش بالمصالح، والتوازن بتغيُّر الظروف.
فمنذ بدايات القرن السابع عشر، برزت شركة الهند الشرقية البريطانية ككيان تجاري تحوّل تدريجيًا إلى أداة سياسية وعسكرية، مكّنت بريطانيا من السيطرة على طرق التجارة بين أوروبا وآسيا، وجعلت من الهند محور مشروعها العالمي. وفي هذا السياق، اكتسبت عُمان موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، بحكم إشرافها على طرق الملاحة في بحر العرب والمحيط الهندي، وصلتها التاريخية بشرق أفريقيا والهند.
وعلى خلاف أجزاء أخرى من الخليج، لم تدخل عُمان تحت نظام الحماية البريطانية المُباشرة، مستندةً إلى قوتها البحرية، وإلى القيادة العُمانية- آنذاك- التي أدارت علاقتها مع بريطانيا بمنطق التوازن والحفاظ على القرار السيادي، لا التبعية القانونية. ومع ذلك، لم تكن هذه العلاقة خالية من التأثير، إذ ارتبطت بمصالح بريطانية تتعلق بأمن الملاحة والتجارة، وترك ذلك أثره على طبيعة الانفتاح الاقتصادي وأنماط التبادل في تلك المرحلة.
ومع تراجع دور شركة الهند الشرقية بعد أحداث عام 1857، وانتقال إدارة المصالح البريطانية إلى التاج البريطاني مباشرة، بقيت آثار تلك المرحلة حاضرة في بنية التجارة، وفي ارتباط الاقتصاد العُماني المبكر بالأسواق الخارجية، حتى بعد انتهاء الوجود البريطاني الرسمي في المنطقة.
اليوم، لم تعد التأثيرات الخارجية تظهر في صورها التقليدية، ولا تُدار عبر الأساطيل أو الاتفاقيات غير المتكافئة، بل تتخذ أشكالًا اقتصادية أكثر تعقيدًا.
وفي الحالة العُمانية، تتمتع الجالية الهندية بحضور اقتصادي واسع، له جذوره التاريخية المعروفة في الموانئ والأسواق، وكان جزءًا من التبادل التجاري والتعايش الاجتماعي لعقود طويلة.
غير أنَّ هذا الحضور، بحسب ما يُثار في النقاش العام، يثير تساؤلات مشروعة حين يتحول من شراكة طبيعية إلى اختلال في توازن بعض القطاعات، أو حين تتركز أنشطة تجارية وخدمية بعينها في نطاق محدود؛ بما يؤثر على فرص المنافسة المحلية، ويضغط على الاقتصاد الوطني.
هنا لا تُطرح المسألة بوصفها موقفًا من جالية بعينها؛ بل كقضية سياسات اقتصادية تتعلق بإدارة السوق وضمان عدالة الفرص. وعند ربط هذا الواقع بأهداف رؤية "عُمان 2040"، تتضح أهمية إعادة تقييم بعض أنماط الحضور الاقتصادي في السوق المحلي. فالتنويع الاقتصادي، كما تطرحه الرؤية، لا يقتصر على تعدد القطاعات؛ بل يقوم على تمكين المواطن، وبناء القدرات الوطنية، وتعزيز القيمة المضافة داخل الاقتصاد.
غير أنَّ استمرار الاعتماد الواسع على العمالة الوافدة في قطاعات التجارة والخدمات، يحدّ من تحقيق التعمين بمعناه الحقيقي، ويُبقي المواطن في مواقع هامشية داخل دورة الإنتاج. كما إن أحد أهداف الرؤية يتمثل في تقليل تسرب الدخل إلى الخارج، وتعزيز دوران رأس المال داخل الاقتصاد الوطني، وهو ما يستدعي سياسات أكثر توازنًا بين الانفتاح وحماية السوق المحلي.
لقد نجحت عُمان تاريخيًا في الحفاظ على خصوصية تجربتها واستقلال قرارها في مُحيط متقلب، وهي اليوم أمام تحدٍ مختلف في طبيعته، لكنه لا يقل أهمية؛ فالمطلوب ليس الانغلاق ولا التضييق، وإنما إدارة واعية للانفتاح الاقتصادي، تضمن شراكات عادلة، وتدعم أهداف التنمية، وتُبقي الاقتصاد الوطني متماسكًا وقادرًا على الاستجابة لمتطلبات المرحلة المقبلة.
