"سلطانة في نيويورك"

 

 

 

عبدالرحمن محمود المحمود **

 

حملت معي- ضمن ما حملت من كُتب- إلى جزر "سفالبارد" في الدائرة القطبية الشمالية، كتاب "سلطانة في نيويورك، أولى رحلات الأسطول العُماني لأمريكا، عام 1840"، الكتاب متوفر ومشوّق، لذا فلن أتناوله لا بالتفصيل ولا بالإيجاز، حثاً للقارئ الكريم على القراءة خاصة وأن الكتاب من الحجم المتوسط ويقع في 88 صفحة.

الكتاب من تأليف هيرمان فريديريك آيلتس سفير الولايات المتحدة الأمريكية السابق لدى جمهورية مصر العربية، نقله إلى العربية الأستاذ محمد أمين عبدالله، ولقد سبق لي قراءة الكتاب في طبعته الأولى منذ عقود خلت، وما بين يدي هي الطبعة السادسة.

رغم أنَّ مراكش عاصمة المغرب، أول دولة في العالم تعترف بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1777، وأول دولة توقع معها معاهدة صداقة في عام 1786، إلّا أنَّ سلطنة عمان هي أول دولة عربية وشرق أوسطية ترسل بعثة دبلوماسية وتجارية على سفينة من سفن أسطولها إلى الولايات المتحدة، هذا في الوقت الذي كانت فيه الطائرات مُجرد حلم لم يحلق في سماء الواقع بعد.

البعثة كانت على سفينة من سفن الأسطول السلطاني العُماني البحري، بل هي دُرة الأسطول كما يُشير إليها اسمها، وبرئاسة سكرتير السلطان أحمد بن نعمان الكعبي.

المهمة لم تكن سهلة مُيّسرة، ولا نُزهة بحرية، فمن خَبِرَ أهوال المُحيط الأطلسي مثلي، يعرف الأهوال التي واجهتها سُلطانة، هذا خلاف ربان السفينة الإنجليزي الذي لا يفيق من سكره إلى درجة غيابه عن الوعي في أدق مراحل الرحلة الحرجة، حيث لم يغادر فراشه لمدة ثمانية أيام، مما دعا طاقم السفينة إلى إلقاء ما بقي من خُمور الربان سليمان في البحر، وتولى قيادة السفينة وتوجيهها الوجهة الصحيحة ملاح عربي لم يذكر الكتاب اسمه صراحة ولعله محمد جمعة. هذا خلاف الفئران والبراغيث والصراصير وغيرها والتي رافقتهم رحلتهم، واتخذت من خزانات مياه الشرب، ومخازن المؤن مقراً لها ومستقراً.

أرسل السلطان السيد سعيد بن سلطان، مجموعة هدايا سلطانية ذات قيمة عالية، أُعجب بها الرئيس الأمريكي "مارتن فان يورين"، إلا أنَّ تلك الهدايا أثارت خلافات حادة بين أعضاء الكونغرس، خلاصتها أنه لا يجوز لأي مسؤول حكومي رسمي بما فيهم رئيس الجمهورية قبول هدايا شخصية من أي جهة كانت، ورغم الاقتراح المقدم من بعض الأعضاء بقبول هدايا السلطان، ومن ثمَّ تسليمها للحكومة الأمريكية لتكون من ضمن مقتنياتها التي لا يجوز التصرف فيها، أو تحويلها إلى الجمعيات الخيرية أو أية جهة لا تنتفع بها، إلا أن الرأي المتشدد غلب برفض هذه الهدايا، وأسقط في يد مبعوث السلطان وبيّن لهم أنَّ رفض قبول هدايا السلطان يُعد تصرفاً مسيئاً إن لم يكن إهانة! وتم قبول الهدايا، وأُودعت في بادئ الأمر في دار براءات الاختراع في عام 1843، ثم نُقلت في عام 1887 إلى متحف الولايات المتحدة القومي، أما السيف السلطاني فقد اختفى، وزجاجات العطر تبخرت محتوياتها!

السلطان السيد سعيد لم يكتفِ برحلة "سلطانة" إلى أقصى الغرب، بل عزم على إرسال سفينة أخرى إلى مانيلا لاستيراد السكر، وكرر رغبته في إرسال السفينة "الغوّالة" إلى الولايات المتحدة الأمريكية محملة بالصمغ العربي، وسفينة أخرى هي "غزالة" إلى نيويورك، لكن لم تتحقق رغبته تلك لأسباب تجارية.

كان البحارة العمانيون يتجولون في طرقات نيويورك بملابسهم الوطنية الزاهية، وتصطف الجماهير الأمريكية مرحبة ومُحيية لهم دهشة وإعجاباً.

توفي قائد الرحلة أحمد بن نعمان الكعبي في عام 1869 ودُفِن في زنجبار، وله اليوم لوحة زيتية رسمها الرسام "موني" في بلدية نيويورك، ونسخة منها بريشة الرسام نفسه في متحف "بيبودي" في سالم بولاية ماساتشوستس.

** مدير مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي لدراسة الحضارة العربية والإسلامية في أوكرانيا

 

غلاف.jpeg
 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z